تربويون: إلغاء معاهد التربية “التجربة” الأشد ضرراً وفتكاً بالتعليم في السودان

0 369

متابعات: ود أبو حامد

وإن عزّت- حتى الآن- استعادة مؤسسات عريقة صنعت تاريخاً مؤثلاً؛ وبنت أجيالاً علّمت، وربت، كـ”بخت الرضا”، إلا أنه لم يعز التلاقي على من عاشوا فصول وأمجاد مؤسسة تربوية ظلت الأعرق والأوحد في محيطها العربي والإفريقي لتدريب المعلمين حملة مشاعل العلم والنور، ليجتمعوا مجدداً في رحاب المدينة عرب، ويحضروا لقاءً تربوياً حمل الرقم (6) ضربوا إليه أكباد الإبل، وسعِدوا بلقاء جماعة “الرِفاق”، واسترجعوا معاً جميل الذكريات، ونَعموا بضيافة البروفيسور: محمد صالح عبدالرؤوف وعشيرته الكِرام..

السادس لخريجي معهد التربية “بخت الرضا”

**بروفايل

تقرر في العام 1934م، قيام مركز لتدريب المعلمين بمنطقة ريفية (بخت الرضا) الواقعة شمالي مدينة الدويم على النيل الأبيض، وذلك لما اجتمع فيها من مزايا موقعها وسط السودان، ولما مثلته من وسط ريفي يصلحُ لتدريب المعلمين في بيئة شبيهة بمعظم مناطق البلاد.. قيام المعهد أوصت به لجنة “ونتر” المكونة في أعقاب الأزمة الاقتصادية؛ وهي الخطوة التي حتمت إعادة النظر في سياسة التعليم، والاستغناء عن كثير من موظفي الحكومة..

الأهداف الرئيسة التي قامت من أجلها بخت الرضا تمثلت في تدريب معلمي المدارس الأولية، وضع مقررات وكتب التلاميذ ومراشد للمعلمين بالمدارس الأولية، تنظيم دورات تجديدية أثناء الخدمة للمعلمين الذين انخرطوا في سلك التعليم قبل قيام بخت الرضا، فضلاً عن “ترييف التعليم الأولي” بوضع المناهج والكتب التي تخدم هذا الغرض..

**تأسيس المعهد

مستر “قريفث”

وأوكلت للمستر “قريفيث” مهمة قيادة المؤسسة كأول عميد لمعهد التربية بخت الرضا، وهو: “بريطاني” قدم إلى السودان عام 1929م، وقد كان يعمل بمصلحة المعارف، وكلية غردون في مجال تدريب المعلمين، وكذلك عمل بالهند وتأثر بأفكار “المهاتما غاندي”.

وشارك في خطوات تأسيس المعهد وإنزال فكرته إلى أرض الواقع؛ الأستاذ: عبد الرحمن على طه الذي تولى مهمة قيادة العهد بعد الاستقلال مباشرة. ويتميز المعهد بشعار يتضمن كتاباً مفتوحاً يظهر بداخله وجه لشخص بلونين أبيض وأسود في دلالة على النور والجهل..

وما قبل بخت الرضا كانت هنالك مدرسة اسمها (العرفاء) أنشئت عام 1900م كأول كلية لتدريب المعلمين في السودان.. ومستر قريفيث هو من قام بنقلها من الخرطوم إلى بخت الرضا، وقد كانت فصولها أربعة وعدد تلاميذها (40).. ويعتبر معهد بخت الرضا الأول من نوعه على مستوى إفريقيا والشرق الأوسط، لتدريب المعلمين في المرحلتين الابتدائية والوسطى.

واستمرت التجربة بعد ذلك في تطور مطرد، بإنشاء عددٍ من المعاهد المماثلة لتدريب المعلمين بالسودان بكلٍ من: “أم درمان، شندي، الدلنج، كسلا، الفاشر ومريدي” تحت إشراف بخت الرضا.

كان “مستر قريفيث” استمر من عام 1934م حتى 1950م، وجاء بعده مستر “هودجكن” الذي عَمِل ببخت الرضا حتى 1955م، ثم خلفه الأستاذ عبد الرحمن علي طه.

عبدالرحمن علي طه

**إلغاء المعاهد

وبجانب مهمة تدريب المعلمين؛ إطلع معهد بخت الرضا بمسؤولية الإشراف على التوجيه الفني، ووضع مناهج التعليم الابتدائي والأوسط واستمرت هذه الأدوار المتعددة في خدمة التعليم حتى 1990م، حيث ألغت حكومة الإنقاذ معاهد تدريب المعلمين، واستبدلتها بكليات التربية.

أدى ذلك لأن تنحصر مهمة معهد بخت الرضا في إعداد مناهج التعليم العام (أساس وثانوي)، وتحوَّل اسمه في العام 1996م؛ إلى المركز القومي للمناهج والبحث التربوي.. وثمة إجماع على أن تجربة إلغاء المعاهد كانت الأشد ضرراً وفتكاً بالتعليم في السودان، باعتبار أن مفهوم التدريب يختلف تماماً عمَّا تقوم به كليات التربية، ولذا كان الأوجب والأصح بل الأفيد في نظر مسؤولين سابقين ببخت الرضا؛ أن تستمر المعاهد مع كل كليات التربية لتقوم تلك المعاهد بدورها الرائد والمهم جداً في عملية التدريب.

**الملتقى السابع

جميل مصطفى جميل

يقول الأستاذ: جميل مصطفى جميل، إن فكرة الملتقيات نبعت من بعض الإخوة على رأسهم المرحوم محمد علي الشيخ، وعيسى الشريف عثمان من منطقة نسيم الجنة التي استضافت أحد الملتقيات، بجانب الشبارقة، وجاد العين، والكريمت، والسنوط بغرب كردفان، ثم المدينة عرب في ضيافة البروفيسور محمد صالح عبدالرؤوف الذي أغدق عليهم وعشيرته كرماً فياضاً..

اجتماع “رفاق” معهد التربية بخت الرضا يأتي بعد مرور أمدٍ بعيد وصل في بعض مراحله إلى (40) عاماً ما أفرز أجواءً من الفرح، والدموع بين دفعات الأعوام: 65- 88- 94 آخر دفعة تخرجت في المعهد..

“جميل” تخرج في معهد التربية مبروكة في العام 1977م، وأقام بداخليتي “دقنة” ثم “جماع” التي كان رئيساً لها، وعمل بالإقليم الشرقي في منطقة شمال القضارف، وولاية الجزيرة. قبل أن يختتم مسيرته في التدريس مشرفاً على تعليم الشبارقة ليتقاعد بعدها للمعاش الاختياري في 2016م.

الملتقيات تتأسس على نواحي تربوية أكثر من أي شيء آخر، فالكل يعلم ما هي “بخت الرضا” ودورها في العملية التربوية، وبرز هذا الدور بشكل أكبر بإقامة معرضٍ يحكي عن تراث سنوات أعادت الحاضرين إلى حقبة مستر قريفث، والأستاذ عبدالرحيم علي طه، ومندور المهدي وغيرهم من شخصيات بخت الرضا، والأساتذة العِظَام الذين تدرجوا في سلك الأنبياء..

المشاركون في الملتقى السادس مثلوا مختلف مناطق السودان في الشرق، الجنوب، الغرب، جبال الأنقسنا، الخرطوم، النيل الأبيض، الجزيرة، يدفعهم شوق التلاقي. ويشير “جميل” لتلقيهم دعوة من قسم المناهج التربوية ببخت الرضا للمشاركة في الملتقى السابع والذي سيتم تحديد موعده لاحقاً..

**شهادة بخت الرضا

عثمان محمد أحمد “سُنط”

الأستاذ عثمان محمد أحمد “سُنُط” خريج معهد التربية مبروكة بخت الرضا 74- 78، من قرية الوراق أبوسنينة، درس المتوسطة بالمدينة عرب حيث تأكدت رغبته منذ ذلك الوقت في الإلتحاق بالمعهد الذي تقلد فيه مناصب كثيرة من بينها رئيس منزل “دقنة” لفترة ثلاث سنوات، ورئيس العيد (43) الذي أشرف عليه الأستاذ إبراهيم خلف الله..

عقب تخرجه عمل معلماً بالخرطوم لثلاث سنوات، ثم ذهب مبتعثاً للمعهد العالي للموسيقى والمسرح حيث نال درجة البكالوريوس في الموسيقى، قبل أن يعود مجدداً للتدريس بمدارس أم درمان المهدية حتى العام 1996م، ثم انتقل للعمل بالمدارس الخاصة بالرياض بشهادة بخت الرضا التي كانت مثار اعتزاز، وتقديرٍ عالٍ عند السعوديين. يقول: “شهادة بخت الرضا كانت تفوق الدرجات العلمية العليا بالنسبة للبلدان العربية الأخرى”.

ويضيف: “كنت أعمل ضمن مجموعة من المصريين، والسعوديين، حيث توليت أمر اللغة العربية للصف الثالث، ثم رُقيتُ للصف السادس بعد حضور الموجه المقيم، ومدير المدرسة طريقة تدريسي”.. وكان تدريس الصف السادس مشروطاً بشهادة البكالوريوس، وأنا أحمل دبلوم بخت الرضا.. وهو الأمر الذي انتقده موجهون تربويون من التعليم الموازي بالمملكة وسجلوا من خلاله صوت نقدٍ لمدير المدرسة الذي طالبهم بحضور عملية التدريس؛ لتترسخ قناعتهم ببقائي على ما أنا عليه، وكل ذلك بفضل شهادة بخت الرضا..

ويعيد “سُنُط” تأكيده بالقول: “باعتباري خريج معهد التربية بخت الرضا، كنت مجال ثقة عالية لأصحاب المدارس الخاصة، والمدير المقيم، وكثير من الموجهين، ولا يجري قبول واستيعاب أي معلم إلا باستشارتي، وتأميني على مستوى المعلم بعد جلوسي معه. وكانت كراسة تحضيري أنموذجاً يقدم لكل المعلمين الجدد ما يدل ويؤكد بشكل قاطع تميز خريج بخت الرضا حتى على الدرجات العلمية العليا..

**إعادة معاهد التربية وكلية المعلمات

هاشم تاي الله عثمان

الأستاذ هاشم تاي الله عثمان؛ خريج معهد التربية بخت الرضا 1977م، يرى نفسه محظوظاً ومعتزاً بانتمائه لقبيلة المعلمين، حيث أتاح له ذلك العمل بالسودان وخارجه.. ويتحدث الرجل الذي تراكمت خبراته بفضل معهد التربية بلغة العارفين ببواطن الأمور، ومكامن العلل.. وودّ أن يضع رسائله في بريد مسؤولي التربية والتعليم إن كانوا حادبين على مصلحة العلم في السودان..

فثمة فرق بائن يراه “تاي الله” بين العمل في السبعينيات والآن، فهنالك نوع من الاهتمام، والانضباط بين المعلمين والخدمة المدنية، وانضباط في السلوك العام للطلاب؛ مفقود الآن.. وتتأسس توصيته للقائمين على أمر التعليم بالسودان على إعادة معاهد التربية، وكلية المعلمات لحقل التعليم..

كما يشدد على ضرورة الاهتمام بتأهيل وتدريب المعلم إن كانوا ينتظرون تخريج أجيالٍ عالمة ومتعلمة تنهض بالبلاد وترتقي بها إلى مصافِ الدول المتقدمة.. وفي محيطه العربي والإفريقي؛ يعتبر السودان أقدم دولة في نظام التعليم الذي بدأ في العام 1943م بتأسيس معهد التربية بخت الرضا؛ هذه المؤسسة التربوية التي ما زال البكاء مستمراً على أطلالها، ويتحتم على الجميع بحث الأسباب التي جعلت معاهد التربية خارج الخدمة..

وبالنظر للواقع، يتضح البون الشاسع بين معلمي معاهد التربية، وخريجي كليات التربية في جوانب اللغة، التدريب، الوسائل التعليمية، الخبرة في الأداء، السلوك التربوي، بجانب ما يقدمه المعلم للطالب من ناحية أكاديمية، فنية، وتربوية..

ويذكر تاي الله أنهم أجروا قبل التخرج في بخت الرضا، تسعة أبحاثٍ في علم النفس التربوي تضمنت: “سيكولوجية الطفل، الطفولة المبكرة والمتأخرة، والمراهقة، تعديل السلوك” وهو ما يفتقر إليه حالياً خريجو التربية.. ما يستدعي المطالبة بإعادة معاهد التربية، وكليات المعلمات لأغراض التأهيل والتدريب والذي يجب أن يشمل كذلك الخدمة المدنية بما يضمن تحقيق نهضة السودان في المجالات الصحية، التربوية، الهندسية، والبيئية، وغيرها من المجالات، ويجب أن يكون هذا التدريب في نظره معتمداً، وعلى يد خبراء..

Leave A Reply

Your email address will not be published.