قراءة في “كولاج” الغرائبية والواقع لـ”محي الدين الريح”
عثمان البشرى

“الكاميرا” هذا الكائن الآلي العجيب، هذه العين السحرية الدقيقة بعمق الإنسان وحساسية وشفافية روحه وبكل ثقابة وعيه بدقائق نفسه التواقة إلى المعرفة وإلى الرؤية الفنية الكامنة في الحيوات العديدة التي يحور بها واقعه الحياتي والإنساني، وتكتنف تفاصيل يومه العادي البسيط وتاريخه المعقد.
الكاميرا هذه العين الثاقبة والشفافة، لابد أن وراءها عين أخرى أكثر ثقابة وأدّق.. فمن زوايا قاطعة وحساسية فنان عرف كيف يطوع روحه القلقة ويذّوب كيانه المعجون بغرابات واقع شديد المرارة وكثيف الإختناق والحرائق.. فنان إسترق من اللحظة حياة كاملة نشطت من حيثيات واقعها وإنفلات إيقاعها وصارت المعيارية فيها للغموض الذي يحف ويسوّر حيويتها الطبيعية.
هذا الفنان أدرك جيداً أن الحقائق تكمن في اللا معقول، في الغرائبية الواقعية بصورة أخرى في الواقع السحري الذي ما انفك يثبت كل يوم أنه ماضي إلى أقصى درجة غير متوقعة لكنها بالضرورة ستكون.

وإذا كان لابد لنا أن نسلم بذلك فعلينا أن نقول: الواقع لا الصورة إنما بدأ في إصطحاب معارف أخرى غير تلك المعهودة، والفنان دوره حيال ذلك أن يكشف لنا المشهد المعقول الذي يمكّننا من قبول كل هذا التناقض والإنشطار والتكسر والتشظي.. وغليان الحياة بضغوطها وغرائبها المختلفة ..
إذن عندما يبدأ الفنان محي الدين الريح في الرسم بالصورة فإنه حتماً قبض على هذه الشفافية بكلتا يديه الموسومتين بنشاط فني دقيق، وثمة هاجس فني محموم يحوّم فوق فضاء طموحه المضطرم لإنجاز عمل يوازي هذا الواقع المقلوب وهذه الحياة المتكلسة والمضطربة.
فعند ضغط وفوران الدم في الشرايين وعند إنفجار الخطوط وإنشطارها في الروح قبل الجسد وعند لحظة الإحتراق الكامل والغليان تصير الكاميرا ريشة أخرى طائعة وخاضعة لسطوة الفن وشهوة الحياة والخلق والتكيف. ومحي الدين الريح بذلك يرصد ويسجل ويصيغ ويخلق.. إنه يستخدم كل أساليب المكر والدهاء والإسترضاء والمداهنة لوقف هذا الفوران فوق بياض سيصير بعد حالة من القلق المحموم إلى لوحة تنطق بكل الغرائبية التي أخذت طريقها إلى الواقع.. إنه يستدرج الكاميرا إذن لتنقذه من هذا الويل.
فالصورة وحدها لا تنجز العمل.. الصورة لا اللوحة هي مفردة واحدة من جملة طويلة حاول هذا الفنان الدؤوب أن يضيفها إلى اللوحة.. إنه إذن يعمل من عدة زوايا وانشطارات لونية مختلفة.. ليكتب هذه الجملة: “اللوحة”، فعملية “الكولاج” هي إذن تقنيته الفاعلة في التحليق.. والصورة: “الكاميرا” هي إحدى المعاول الفنية القاطعة.. والتي حاول جاهداً أن يستخدمها في العمل.. وهو بذلك ينشئ بحساسية بائنة حواراً بالغ الدقة بين بياض الورقة وتشظيات الصور التي يجمعها للعمل..
وفي الواقع فإن العملية برمتها لن تستجيب إلى المشهد الأخير إلّا من خلال لحظة دقيقة الشفافية ..
إذن إن محي الدين الريح في “كولاجه” هذا إنما أراد أن يضيف إلى واقعنا الفني المتعاظم قلقاً فنياً جديداً قادراً على قراءة كل هذا التشرذم الإنساني مستنطقاً من خلال عدسة حساسة حيوات أخذت في التقزم والإنهيار الإنساني الكامل.. وهو بذلك يسألنا بالضرورة الإسئلة التي نتحاشى دائماً السقوط في دائرتها خوفاً من إكتشاف الحقيقة !!






كاتـــب وشاعـــــــــر
القاهـــــــــرة 2003م