يا خاين: فراقك نارو حراقة
عبد المنعم منعش
ولد في ود مدني عاصمة الثقافة والفن والجمال، وترعرع في أمدرمان في حي العرب منتدى الإبداع والغناء، صديقه وجاره الفنان الذري إبراهيم عوض، كان يذهب مع الشاعر والملحن عوض جبريل إلى النيل ليقلد كبار الفنانين مثل أحمد المصطفى، وعثمان حسين، وغيرهما من أساطين الغناء السوداني.
لم يتجار بفنه وعاش عفيفاً مترفعاً كما الشمس رفعة وعلواً، مثل الجندي الروماني ينكفئ على سيفه إذا تيقن أن باطن الأرض خير من ظاهرها، حسده الكثيرون على شاعريته وكلماته التي تفيض عذوبة ونداوة، أن كيف للعسكر أن تصدر منهم تلك المشاعر المفعمة بالعبير، فقال لهم لست الوحيد فهنالك مبارك المغربي، وعوض أحمد خليفة وغيرهم من الذين يتردون البزة العسكرية ويجمعون ما بين السيف والقلم.
يقول النقاد أنه نتاج التنافس الشديد بين مدرسة أم درمان اللحنية التي يمثلها عبدالرحمن الريح، والتاج مصطفى وبرعي محمد دفع الله، ومدرسة الخرطوم التي يتزعمها الفنان عثمان حسين، وعميد الفن أحمد المصطفى؛ فكان يأخذ من هذه ومن تلك بعض الرحيق ويضفي عليه تجربته الخاصة فهو شاعر وملحن من الطراز الأول.
تنافس كذلك مع الرائع ود الحاوي في صقل تجربة إبراهيم عوض الإبداعية، وصياغة حساسيات رقيقة تتخللها آهات وتطريب صوتي فريد
كان رفيق كل من سوار الذهب ذلك الرائع المتواضع (رجل السودان المهذب)، وعبد الماجد حامد خليل وبابكر النور في الكلية الحربية، وهناك تعلم أن النظام هو معيار الحياة الناجحة كيف لا وهو يرافق تلكم الكوكبة الفريدة من رجال السياسة والحكم الرشيد، ولكن الوشاة قالوا للمرحوم الفريق إبراهيم عبود أنه يدبر له إنقلاباً فحكم عليه بالإعدام ولكن خفف إلى المؤبد.
ولما خرج من السجن كتب أغنية “يا خاين” التي تغنى بها الرائع إبراهيم عوض، وقدم للإمبراطور ودري أغنيتي “الحب والريدة” و”شعبك يا بلادي أقوى” وبالرغم من صداقته وإعجابه بالملحمي عثمان حسين الذي يختلف عنه في الأسلوب الموسيقي، لم يتم التعاون بينهما وذلك لأن الأول كما أسلفنا يميل إلى الاسلوب الملحمي الرصين ولا يفضل الأسلوب الراقص والشبابي، إنه شاعرنا الفذ العميد معاش الطاهر إبراهيم.
قدم لإبراهيم عوض “حبيبي جنني، يا خاين، ملاذ أفكارنا، أبيت الناس، أعز عزيز، فارقيهو دربي، لو بعدي، ليه تغيب” واتسم شعره بالحزن والرومانسية، وجاءت ألحانه معبرة عن جيل تربى على أحلام وخيال شعري يفوق التصور، جيل كان يحمل البندقية وباقات الزهور ويجمع بين القوة والحب، في يمينه جنة وفي يسراه جهنم، جيل نشأ تحت وطأة المستعمر وظلمه فورثه حنيناً إلى الحرية المفتقدة، وأراد بناء وطن شامخ يحكي وطن المستعمر عزة ونماء، فسقط بين أتون الواقع وماء الأمل، فماذا نقول غير أنها تقليد المغلوب للغالب أو رد المستعمر (بفتح الميم) على المستعمر (بكسر الميم) وهنا كانت ملحمة الهجرة إلى الشمال وكل السودانيين يهاجرون إلى الشمال كما النيل، انحداراً وتدفقاً إبداعياً بغير منتهى.
انتقل إلى رحمه مولاه في شهر رمضان، ولقي ربه محتسباً صابراً برغم تنكر الناس له وظلمهم لفنه الجميل في يوم 1/7/2016م في أيام العتق من النار، نسأل الله له المغفرة والرحمة وأن يبدله داراً أكرم وأبرح من داره.