سن النار: غرناطة إفريقيا
بقلم: عبدالمنعم محمد إسماعيل(منعش)
عاصمتها هي تحكي قصة فاتنة حسناء، فائقة الحسن والجمال، وتسمى “سن النار” كانت مقصد كل شاعر وأديب، يأتي إليها العاشقون زواراً وخطاباً، فُحوّر الاسم وصارت “سنار”، وفي المعاجم اللغوية تطلق كلمة سنار على الهر “القط”، والجمع سنانير، سنّار (بكسر السين وتشديد النون وفتحها)، مدينة تقع في ولاية تحمل اسمها في وسط السودان على الضفة الغربية لنهر النيل الأزرق على ارتفاع 427 متر فوق سطح البحر وتبعد عن العاصمة الخرطوم مسافة 280 كيلومتر جنوباً، وكانت سنار لقرون عديدة عاصمة للسلطنة الزرقاء التي حكمت السودان في القرن السابع عشر وحتى عام 1821م. وهي اليوم واحدة من أكبر المراكز التجارية وأبرز نقطة تقاطع لخطوط السكك الحديدية في السودان.
يلملم الماضي ما تبقى من رحيقه مسرعاً وضاناً علينا ببعض حقائقه وذكرياته، ونحن نستشرف حقبة جديدة تنحو نحو العلمية والموضوعية بالنظر إلى تاريخنا بغرض الدراسة والتحليل والنقد وربما الكشف عن أوجه القصور في بعض جوانب الشخصية السودانية التي غالباً ما تميل إلي الشفاهة والخطابية.
الناظر إلى دولة الفونج أو السلطنة الزرقاء (1405-1821م) يقف مشدوهاً أمام ظاهرة تاريخية تكاد تخلو من المصادر المكتوبة التي يمكن الرجوع إليها سوى كتابي (الشونة وطبقات ود ضيف الله) ويتساءل أين ذهبت الحياة اليومية وما يصاحبها من مصادر كتابية مثل الكتب العلمية ومنشورات القضاء وحتى الأدب والشعر والقصص والوقائع والآثار والمباني التي لا تنفك منها أي حضارة أو مدنية مهما اتسمت بالبساطة.
الطريف في الأمر أن تاريخ السودان حتى هذه اللحظة لا يختلف كثيراً عن الحقب التي خلت وذلك ربما لشيء في طبيعتنا وتكويننا وثقافتنا التي تنظر إلى التوثيق بعين الريبة والحذر، ربما يعتبر هذا الأمر محموداً إذا كان متعلقاً بالجوانب الشخصية للأفراد، فلو طرحنا بعض الأسئلة على المثقفين وعامة الناس: كم منكم يدون يوميات ومذكرات حتى يمكن الرجوع إليها في حالة الوفاة أو فقدان الذاكرة؟؟ ستكون الإجابة بأن الصدور هي كفيلة بحفظ المعلومات وبعدها ستتولى القبور بكل ما يخاف منه على الانتشار.
الأمر الذي لا يقل أهمية هو الرجوع إلى مراجع وكتب ودوريات الرحالة والمستعمرين ويجب أخذها بحذر لأن كتاباتهم ذات أغراض ومهام محددة سلفاً ربما للتجسس وفتح البلاد لاحقاً، ولكن هنالك عدة مشكلات تواجه الباحثين في تراث الفونج وتاريخ الدولة السنارية وهي أن المخطوطات والكتب التي تتحدث عن تلك الحقبة هي باللغات الأجنبية، الأمر الذي يتطلب معرفة تامة بتلك اللغات ودقائقها خاصة وأن لغات الفرنجة تتطور كثيراً بعامل الزمن والسياسة والثقافة والحياة اليومية.
يشغلني كثيراً إحجام العرب والمسلمين بالدولة السنارية وعدم احتفائهم بها وربما يرجع ذلك الأمر لأنها نشأت في منطقة ليست بذات بال بالنسبة لهم، أو أنهم عادة ما يتجاهلون الأمور التي لا يسوق لها أهلها وصدق المثل الشعبي “البكا بحررهو أهلو” وذلك أن أصحاب العزاء هم الذين يقع عليهم تولي أمر النادبات والنائحات حتى يعلم الناس أن المفقود شخص عزيز.
ولا يفوتني أن أتحدث عن بعض الآثار التي وردت في بعض الكتب التي يعتمد عليها الآن في تحقيق الدراسات التاريخية وهي بلا شك من نسج الخيال أو ربما للتسلية في أوقات الفراغ والفكاهة، وربما حدثت ظاهرة أو نادرة وأطلقت هكذا حتى صارت من العموميات التي يسجلها التاريخ والوقائع الحياتية، منها ما دار بين القاضي دشين والصوفي الذي زاد عن الأربع وجمع بين الأختين في النكاح وهي بلا شك قصة خيالية نسجت لصالح الصراع بين التصوف والفقه، وتمضي القصة بأن القاضي أمر بفسخ العقد وما كان من الشيخ إلا أن دعا على القاضي بفسخ جلده وكان ذلك، وقصة الأميرة نصرة بت عدلان والشيخ ود كنان أيضاً نسجت للتسلية وتحكي صراع المتصوفة والحكام، ويقال أن صاحبة السوريبة علم بأن هنالك شيخ يسكن مدينة ود مدني أفتى بتحريم “المريسة” وهي خمر بلدية تصنع من الذرة الرفيعة وكانت متداولة بين الناس حتى وقت قريب وتستعمل كمكمل غذائي ذائع الصيت، وأمرت نصرة بت عدلان بإحضار الشيخ للتحقق من الأمر، ويقال أنه حمل إليها من قريته “الكريبة”، وعندما حضر إلى بلاط الأميرة وسألته عن الأمر، خشي سطوتها وقال: “ده ما كلامي، ده كلام الرسالة” يقصد كتاب الفقه الذي أفتى به، فقالت: ” فكوه، من الأول ما تقول ده كلام عوين ساي” ، تقصد النساء، وكذلك وردت وقائع أن الحاكم عندما علم بقدوم الجيش التركي لغزو المدينة “سنار” استدعى الشيوخ والفقراء وأمرهم بأن “يمسكوا السبحة” وذلك لإحراق الجيش الغازي، مثل هذه القصص والأساطير تشوه تاريخ السلطنة السنارية وتوسمها بالجهل والدجل والشعوذة، وهذا أمر ينبغي التحقيق فيه ومراجعة مصادره وكشف زيفها.
الجدير بالذكر أن الدولة السنارية كانت دولة علم وفقه وثقافة وتجارة وعلاقات خارجية ودولية، وهي مدينة الذهب والتعدين والزراعة وتقصدها الرحلات العلمية من أصقاع إفريقيا والمغرب العربي، وكانت المأوى والملاذ الآمن للأشراف ورجال الدين والمتصوفة الذين نشروا الدين الإسلامي والثقافة العربية.