مالك بتنتح يا وطن.. رابطة الجزيرة للآداب والفنون.. فقه التعاطي مع الأدب الثوري
تقرير/ راشد حامد عبدالله

تمُورُ الساحة السياسية السودانية موراً بالأحداث، ويغلي مِرجَلُها، وتزداد التصدعات في أرضيتها الوطنية، وينسد أفق الحل أمام أهلها الذين تطلُع عليهم الشمس وتغربُ كلٍ يومٍ جديد وهم يستشرفون جرحاً غائراً يفاقِمُ الأزمة، ويوقظ الألم، ليظل التساؤل الذي طرحته إحدى ثائرات ود مدني قائماً: مالك بتنتح يا وطن؟!..
وبمثل ما غاب صوت الحكمة وعجز عن لملمة جراحات الوطن الذي تحولت معظم مناطقه، سوحاً لقنص الشباب الغض الثائر، غاب صوت رابطة الجزيرة للآداب والفنون لسنواتٍ طويلة، ولفها ثباتٍ عميق بدأت الاستفاقة منه في عصر ثوري له أدواته، ومطلوباته، ولغته المختلفة، وجيله الأكثر اختلافاً في التعاطي معه، وفهمه لمعرفة معالم ومفاتيح الطريق إلى عالمه..

*انقطاع طويل
ومنذ العام ٢٠١٧م؛ لم تنتظم أعمال الرابطة لعوامل يرى بعض قادتها أنها ذاتية، وأخرى خارجية بينها هجرة كثير من روادها حيث كانت جزءاً من تعطيلها.. وبرزت اتجاهات فردية للإبقاء على شيء من النبض سواءً بجلسات استماع، أو قراءات، أو ندوات..
وفي ظل مناخ رآه قادة بالرابطة أصبح مؤاتياً بإنجلاء ليل التعتيم والتقييد، وأفضلية الظرف الموضوعي الحالي بعلاته، برزت فكرة إعادة تنشيط الرابطة برؤية، وأهداف، ودماء جديدة تواكب المتغيرات الراهنة، والحراك الذي ضرب بأطنابه، وفرض تغييراً جذرياً في محتوى الخطاب الثقافي، وتنظيمه..
ويمثلُ الظرف الثقافي وخطابه في ظل ثورة مجيدة، بداية جديدة لما يدور في ود مدني التي خلّدها محمد محي الدين في انتفاضة ٨٢ في عشرِ لوحاتٍ للمدينة وهي تخرج من النهر..
غير أن “وَرِقَ” جيل رواد الرابطة الذين جاوزت أعمار أكثرهم الستين، لم تعد صالحة للتعاطي مع جيل الألياف الضوئية؛ صاحب الصوت الأعلى، والمتشرب باعتراض كلي ورفضٍ لأدوات وتراث جيلٍ يرونه لم يعد صالحاً للاستخدام في التناول أو الطرح..
ويفرض واقع الغربة بين الأجيال على المستويات الثقافية، والاجتماعية، والسياسية؛ الناجم في نظر قيادات ثقافية عن إقصاءٍ مُورِسَ ضدهم، إيجاد آلية تجعل شباب الثورة مكوناً أصيلاً، وجزءاً من البناء الثقافي والفني في مرحلة قادمة..
وفي رؤية أوسع أفقاً؛ يتطلب التجديد، والتحديث على مستوى التنظيم، والأنشطة المُراعية لمتطلبات أجيالٍ مختلفة التوجهات والمداخل، الانفتاح على الناس في جغرافيتهم، ووقتهم، واحتياجاتهم، وتمثيل أكثر من جيل في الرابطة..

ويُرجع البعض ظاهرة ما بعد الستين إلى حالة “التشرنق”، والعيش على أمجاد الرابطة أعوام ٨١- ٨٢، ويستدعي الوضع في رؤيتهم غزو حواضر المحليات لتجديد الدماء، وتهيئة منصات للمواهب بإحياء الفعاليات، وتحريك برامج الرابطة وتفعيل دورها في استنهاض العمل الثقافي بالولايات الأخرى؛ لجهة أن تأخر المدينة الثقافي أثّر على كل السودان.. وقبل ذلك كله مخاطبة الوضع الراهن بحضورٍ فعلي في فعالية ثورية..
ويرى تشكيليون في “تمكين الثقافة” مطلباً مشروعاً ينبغي السعي لتحقيقه بتنفيذ مقترح برج الرابطة المتضمن داراً للأدباء والفنانيين، واستثمارات تؤمن الموارد للأنشطة والقوافل الثقافية، والدعم الاجتماعي لهذه الشريحة..
فرابطة مثل الجزيرة للآداب والفنون، أسهمت بشكلٍ كبيرٍ جداً في انتفاضة ٨٥، ولعبت دوراً كبيراً في الوسط الثقافي بالولاية، وأسست روابط، وجماعات ثقافية وأدبية، وشارك أعضاؤها في محافل عالمية، وزارها كتاب عالميون، لهي أجدر بمقرٍ لائق بهذا الإرث الكبير..
وتمثل الرابطة ملتقى لاجتماع الروافد الأدبية، والفنية، وهي في نظر تشكيليين ليست خاصة بالجزيرة كولاية، وينبغي أن يكون لها إسهام في الشأن الوطني، والوطن المهدد بأن يكون أو لا يكون.. وتتضاعف الحاجة لهذا الإسهام في ظل التشظي السياسي، وما تُزينه السياسة من انقسام يهيء البلاد لخيار ألا تكون..
وبحكم ما لها من هدفٍ وطنيٍ كبير من خلال ما تملكه من مفاتيح في مجالات الثقافة والآداب والفنون، يجب أن يأتي التفكير في رؤيتهم على المستوى الوطني، وسُبل نشر الوعي في مناطق وأطراف السودان التي أشرفت على الذهاب عن خارطته..
بيد أن إحداث التغيير هناك، يتطلب تقوية البنيات هنا، والانطلاق من قاعدة متينة، تتأسس على فئة عريضة من منتدى ود مدني، واتحاد الدراميين، وتجمع التشكيليين، وغيرهم من الدماء الحية، بجانب رهطها الستيني من قدامى المؤسسين..
إذاً؛ إعادة صياغة خطاب وطني للرابطة تجاه السودان، وابتدار فعاليات قومية وصولاً لريادة حقيقية تُحرِّك الآخرين، يجب أن تبقى هي الإطار الأشمل لرؤية الرابطة، فتعلية السقف في الخارج مطية لتجميع الطاقة بالداخل..
ولكن يبقى موضع “لَبَنَة” مهمة في هذا البناء؛ وهو: “الموارد” فما لم تكن هنالك رابطة يتحقق لها وضع اعتباري مقدر لا يتم تجاوزه داخل الولاية، لن يتحقق شيء (يقول تشكيليون)..

وفي طريق عودتها إلى الراهن الثقافي بكل تعقيداته؛ بدأت رابطة الجزيرة للآداب والفنون بلورة الرؤى والأفكار، والتأسيس لانطلاقة جديدة تتطلب كادراً ثقافياً نوعياً يملك النّفَس الطويل، ويتحمل أقسى الظروف، علاوة عن استدعاء شرائح لا تنفصل عن الساحة بالنهج المتفق مع رؤاها وأدواتها، وعلو صوتها، ومن ثم إيجاد صبغة فكرية لها..
وولدت مقترحاتٍ من قَبِيلِ إنتاجات شعرية لأدب الثورة لمراحل سنية صغيرة ما بين ١٦- ٢٥ عاماً، وانتخاب الأعمال الفائزة وتخصيص جوائز لها وطباعتها في كتاب بالتعاون مع مطبعة الجزيرة الحكومية.. أو صناعة بوسترات تحت عناوين ثورية على نحو (حرية- سلام- عدالة) بجوائز تشجيعية كذلك وطباعتها.. يترافق ذلك مع عروض ثقافية وفنية بالمطبعة مُزامِنة لمعرضها التشكيلي الشهري..