محنة المعرفة(2)

0 173

أ.د. عبدالله محمد الأمين

أزمة المعرفة الغربية :

_ظلت الكنيسة مهيمنة على كل مجالات الحياة وكان أسلوبها في التفكير يتجه اتجاها معاكسا للحقيقة والواقع. ومارست الكنيسة اضطهادا للأسلوب العلمي وشددت من قبضتها بتحالفها مع السلطة السياسيه المتمثلة في النظام الاقطاعي وصار كلا منهما يخدم الآخر فالكنيسة تقدم الأبنية الفكرية التي تحتم على الناس أن يصوغوا وفقها سلوكهم وأساليب تفكيرهم، والنظام الاقطاعي العسكري يقدم التغطية الأمنية اللازمة لتنفيذ قرارات الكنيسة.

_ ناهضت طبقة العلماء التي بدأت تظهر هذين النظامين الكنسي والاقطاعي وساعدهم في تحقيق انتصارهم دخول العلوم الإسلامية خلال القرنين الحادي والثاني عشر الميلادي إلى الدول الاوربية وكان من ضمن العلوم الإسلامية العلوم التجريبية القائمة على منهج الاستقراء والملاحظة. وكانت هذه المرحلة مرحلة تحول حاسمة امتد أثرها الى كل الدول الأوروبية وشكل نواة الثورة العلمية الغربية ووجه العقول تجاه المعرفة العلمية الحقة.

_السمة المميزة في تاريخ الفكر الغربي القديم والتي ما زالت آثارها باقية هي وجود صراع بين العلم والدين، وقد انتهى الصراع باقصاء الدين والتفكير الديني عن مجالات الحياة وحصره داخل جدران المعابد، وطرده من مجال النظر العقلي وعندما حل القرن الثامن عشر كان الفكر الغربي قد قطع أعظم الأشواط في التحرر من الفكر الديني حتى أطلق على هذا القرن عصر التنوير ولم يكن يقصد بالتنوير سوى إبعاد الدين أو الوحي عن التوجية. وكانت أهم ميزة اختص بها عصر التنوير هي الإيمان بقدرة العقل على فهم الكون واستيعابه واخضاعه لحاجات الانسان، ونتج عن هذا مبادئ انطلقت منها النهضة الاوربية وانتهت إليها :

1_الإيمان العميق بالعالم الطبيعي على أنه العالم الوحيد الذي يسعد فيه الإنسان ويجد فيه مطالبه ويلبي  حاجياته

2_ الإيمان العميق بالإنسان على أنه مركز الثقل في العالم والعامل الفعال في التطور والإبداع.

3_الايمان بالعقل وحده على أنه الوسيلة الوحيدة التي تضمن السيطرة على العالم وتسخير امكاناته بالاعتماد على العلم وحده. فالنظرة المادية للكون والإنسان هي سمة الفكر الغربي، وهي السمة التي عملت الفلسفة الوضعية على ترسيخها بطريقة علمية للوصول إلى مشروعية التصورات المادية للعالم. والإنسان الغربي الذي تشبع بهذه المنطلقات الفكرية يجب أن يبحق عن كل شئ في محيطه الاجتماعي، قيمه وأخلاقه التي يدين بها. وإن الإنسان ملتزم ومقيد بقواعد أخلاقه ولكن صانع القيد هو وجوده المادي نفسه. وهكذا كانت ملامح العلمانية في القرن الثامن عشر واضحة ومتغلبة على الاتجاهات الكنسية، وبدأت تبسط سلطانها على المرافق التي كانت تشغلها الكنيسة، ولم يكن هناك مفر من البحث عن مصدر للحقيقة يكون بديلا للسلطة الدينية، ولم يكن هناك من مصدر أفضل من التركيز على الخبرة الإنسانية واستخدام الحواس كأساس للمعرفة العلمية الحقة، فاعتماد الحواس يحرر الانسان ويعطيه قيمته، والحس يقلل الى أقصى حد من قيمة المصدر الديني، وكان للسير فرانسيس بيكون أثر بارز فيه توجيه العلم للاقتصار على الخبرة الحسية وتأسيس الاتجاه الامبريقي ويقابله الاتجاه العقلاني وكان ديكارت مؤسسا له.

_ من نتائج هذا الصراع تأثر مناهج العلوم والتي أثرت بدورها على مجمل أوجه ومجالات الحياة حيث إن اقصاء الوحي من توجيه المعرفة أدى لانحصارها في مجال العالم المشاهد وطبع المعرفة بطابع الظنية والنسبية وما ذلك إلا لأن المعرفة كانت معرفة بشرية قاصرة عن ادراك ما وراء الحواس. والمحسوس والمشاهد الذي يخضع للاستقراء والتجربة والقياس الكمي وحده هو العلم وما عداه يعتبر لا علم وتعتبر قضاياه بلا معنى.

_ على مدار العصر الحديث تبارى فلاسفة الوضعية في تأكيد النزعة التجريبية والنظرية الحسية في المعرفة والعزوف عن الغيبيات، وعلى ذلك فإن الظروف التي نشأ في ظلها العلم الغربي الحديث وتطور قد أدت في النهاية إلى صياغة نظرية المعرفة التقليدية في اتجاهات تنأى بالعلم أن يكون له أدنى صلة بالتصورات الدينية. اتجاهات تحصر العلم في الظواهر التي يمكن مشاهدتها بالحواس والتي تتوقف عند دراسة ماهو كائن وواقع دون اعطاء أي مشروعية علمية لتقويم هذا الواقع.

ودمدني 24/1/2022

Leave A Reply

Your email address will not be published.