الخلوة الإلكترونية…. ضرورة عصرية
عبدالمنعم محمد إسماعيل(منعش)
الخلوة لغة هي: الإنفراد بالشيء أو معه أو إليه، يقال: خلا المكان والشيء إذا لم يكن فيه أحد، وفي المعجم الوسيط الخلوة هي: مكان الإنفراد بالنفس أو بغيرها، ولها معاني أخرى اختص بها أهل الشريعة لسنا بصدد التطرق لها في هذا المقام، والخلوة هي عكس الجلوة وهي الخروج والظهور.
عُرفت الخلوة كمؤسسة تعليمية وتربوية تكافلية تعنى بتحفيظ القرآن الكريم والعلوم الشريعة ومبادئ علوم اللغة والحساب وهي تكون غالباً مصاحبة للمسجد وهي أشبه بالكتاتيب والتكايا في مصر والعالم العربي وتسمى أيضاً القرآنية أو المسيد وتعرف الخلوة أحياناً باسم الشيخ المؤسس لها مثل “ود كنان” أو “همشكوريب” وتنتشر الخلاوى في شمال وشرق ووسط السودان.
ظهرت الخلوة منذ وقت مبكر في السودان إبان دخول الإسلام عبر الطرق الصوفية التي غالباً ما تميل إلى الخلوة بالنفس وسبر أغوارها ولكنها توسعت في عهد السلطنة الزرقاء ويرجع الفضل إلى السلطان عجيب المناجلك (1570-1611م) وكانت الخلوة في ذلك الوقت تمثل التعليم المعتمد الذي يسهم بقدر كبير في القضاء على الأمية ومحاربة العادات الضارة وتقوم بنشر الثقافة الإسلامية بين المواطنين.
أما نظام التعليم في الخلوة فيبدأ من قبل صلاة الفجر بساعة أو ساعتين وتسمى هذه الفترة “الدغشية” وهي مخصصة للحفظ وتعقبها “الضحوية” وهي بعد صلاة الصبح وتخصص لكتابة المقرر اليومي للحفظ وعادة ما يقرر حوالي ثمن جزء من القرآن الكريم، ثم تأتي حصة “الضهرية” وهي لتصحيح القراءة وبعدها تكون استراحة القيلولة حتى “العصرية” وهي بعد صلاة العصر يقوم الطلاب في هذه الفترة بالحفظ والمراجعة وبعد صلاة المغرب تأتي حصة التسميع تعقبها فترة “العشاوية أو السبع” وهي حلقة دائرية حول “التقابة” وهي نار تشعل للإضاءة والدفء ويلتف حولها الطلاب في دورات متصلة وهم يرددون القرآن الكريم.
تقوم الخلوة باختيار وسائلها التعليمية والمواد المستخدمة في الكتابة والقراءة من البيئة المحلية من الأخشاب والألواح والبوص في صناعة الأقلام والحبر من الصمغ والسناج “العمار” ويعتقد الناس في بركة هذه المواد التي غالباً لا تكلف مالاً ولا تلوث البيئة بالمخلفات قال تعالى: ” وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ” فبركة اللوح تساعد على الحفظ والاستذكار ويتعلق المريد أو الآجرومي أو الفقير أو المهاجري (طالب العلم) بلوحه وتكون بينهما مودة وحب متبادل، ولعل ندرة المغريات السمعية والبصرية في الخلاوى تجعل طالب العلم زاهداً في زخرف الدنيا عازفاً عن رونقها وذلك مما يدعو لسرعة حفظ القرآن في فترة وجيزة وفي عمر مبكر، وصدق الشاعر الموريتاني ابن حنبل الحسني حين قال:
عم صباحاً أفلحت كل فلاح** فيك يا لوح لم أطع ألف لاح
أنت يا لوح صاحبي وأنيسي** وشفائي من غلتي ولواحي
بك لا بالثراء كلفت قديماً** ومحياك، لا وجوه الملاح
من ناحية أخرى نجد الخلوة تمثل المجتمع المحلي خير تمثيل فالشيخ والمريدون والحفظة وطلاب العلم يشاركون في الحياة الاجتماعية فمنهم المزارعون والصناع والمهرة وكذلك ينصهر طلاب الأقاليم الأخرى بسحنتهم المختلفة وعاداتهم وتقاليدهم وتذوب كثير من الخلافات الفقهية، ويتبارى الناس في دعم الخلوة بالمؤن والمال والكساء وتأتي المؤسسات الدينية والوقفية بكل ما هو متيسر لخدمة طلاب العلم وحفظة كتاب الله عز وجل.
تمتاز الخلاوى عن المدارس بقوة تطبيق نظرية الفروق الفردية فمن الطلاب من يتجاوز أقرانه وزملاءه في سرعة الحفظ ويتخطى مراحل متقدمة وذلك حسب مقدراته وملكاته الخاصة فليس هنالك فترة زمنية محددة للانتقال من حلقة لأخرى.
وكذلك نجد الطلاب يسكنون في مكان واحد ويدرسون تحت سقف واحد ويلبسون زياً موحداً وبذلك تتجسد معاني المساواة فالغني والفقير والذي يأتي من الشرق أو الغرب أو حتى من دول مجاورة لا يتميز عن سواه بشيء ويستطيع الشيخ بمعاونة مساعديه بالإشراف على عدد كبير قد يتجاوز المائة من الطلاب والحفظة.
وتمثل الخلوة كمؤسسة تعليمية نظاماً مفتوحاً للالتحاق في أي مرحلة عمرية قد يأتي الطالب وهو لما يتجاوز الخامسة أو قد يكون فتياً قوياً في العشرينات، وبالرغم من أن هذه نقطة قوة إلا أنها تتطلب حصافة ومعرفة ومهارة كافية بعلم النفس التربوي لكي يتمكن الشيخ من إدارة هذه المؤسسة المتفاوتة الأعمار والأفكار والمتطلبات من أطفال وفتيان وشباب ولا يخفى علينا اهتمامات كل مرحلة عمرية وتكاليفها الدنيوية ومسؤولياتها وواجباتها حتى لا يتأثر هؤلاء الطلاب نفسياً واجتماعياً لأنهم يفقدون الجو الأسري والمحيط الاجتماعي الذي قد يختلف عن البيئة في الخلوة.
وبالرغم من أن للخلوة مزايا ومميزات ذكرناها سابقاً إلا أن النظام التعليمي فيها يتطلب الدراسة والمراجعة بغرض التقويم والتقييم والإصلاح الذي يساير ظروف العصر والزمن، ومن المشكلات التي يجب الوقوف عليها كما ذكر مشكلة الفئات العمرية المختلفة التي تدرس في بيئة واحدة لا تراعي الاحتياجات الفعلية لكل مرحلة أو فئة عمرية، فمثلاً فئة الأطفال والناشئة تختلف في احتياجاتها العمرية عن فئة الشباب أو المراهقين، كذلك ينبغي رعاية الأطفال الذين هم دون العاشرة وتلبية احتياجاتهم التي يقدمها الأبوين من المأكل والمشرب والملبس المناسب وكذلك يجب مراعاة تطلعاتهم ورؤيتهم وأحلامهم المستقبلية فهنالك من يحلم بان يكون طبيباً أو ممرضاً أو مهندساً وهكذا، وبما أن هؤلاء الأطفال لا يذهبون إلي المدارس النظامية فذلك يعتبر جريمة في حقهم يرتكبها أولياء الأمور ويساعد عليها القائم على أمر الخلوة، كذلك يجب توفير رعاية صحية دورية وكشف طبي وإدخال نظام التأمين الصحي وزيارة من اختصاصي نفسي واجتماعي ويجب أن تشرف وزارة الأوقاف والإرشاد واللجان الشعبية ومنظمات المجتمع المدني في هذا الأمر.
كذلك نظام التربية في الخلوة يعتمد على القسوة المفرطة والعقاب الرادع للذين لا تساعدهم مقدراتهم على سرعة الحفظ أو يميلون إلي اللعب واللهو في فترة الطفولة وأذكر أنني رأيت طفلاً يجري ويتعقبه نفر من الصبية والشباب وهو يفر كأنه هارب من هلاك محقق، وعندما سألتهم عن الأمر قالوا أنه مطلوب لدى الشيخ ويجب الإتيان به كيفما كلف الأمر، وعادة ما يجلد الأطفال بالسياط ويبلون بالسلاسل الحديدية وهلم جرا بغرض العلاج أو تحقيق العقوبة.
لماذا لا يكون هنالك منهج تربوي مصاحب لعملية الحفظ والتلقين تمكن الطالب من إتقان بعض المهارات والمهن لكسب العيش والتكسب بعد نيل الإجازة “الشرافة” وكذلك يجب تبني نظام دراسة وقفي نظامي يعتمد المناهج الدراسية العادية حتى يتمكن الذين لا يملكون المال من الالتحاق به بجانب دراسة الخلوة وبذلك نضمن استثمار عقول مؤهلة كانت لا تجد حقها من التعليم بسبب شح المال وارتفاع تكاليف الدراسة.
ومن حق هؤلاء الطلاب والحفظة أن توفر لهم متطلبات العصر من تكنولوجيا وانترنت حتى لا تكون هنالك فجوة بينهم وبين المجتمع المحلي ونظراءهم من الشباب، فلوح الكمبيوتر والمحمول والجوال لا أظنها هي الشر كله كما يظن البعض من الناس ولكنها ضرورة اقتضتها حاجة العصر ويجب أن تكون بيد كل إنسان فهي حق طبيعي وأصيل وتساعد كثيراً في التعليم والحفظ واستنباط المعلومات والبيانات وتحقق أسلوب التحليل والمقارنة وحل المشكلات.
كذلك يجب أن يهتم البحث العلمي بمخرجات التعليم الديني عامة والخلوة خاصة للوقوف على الايجابيات والسلبيات وكيفية تطوير النظام القائم لكي يواكب متطلبات العصر ويحقق الفائدة المرجوة منه، كذلك يجب أن يتعهد المجتمع المسلم بضمان توفير الدعم المادي والمعنوي لمثل هذا النظام الذي هو بلا شك نتاج عبقرية الأجداد في استغلال الموروث الثقافي التقليدي لتقديم نموذج يحتذي به في كافة دول العالم الإسلامي وتشد إليه الرحال وتضرب له أكباد الإبل وتنصب لأهله المنابر وتفسح لهم المجالس.