كأنها … هي !!
علي عبد الله بابكر
من بلاد الواق واق …
من فاس الماوراها ناس …
من بلاد الهند والسند …
ومن كل المنافى القصية ، فى أرجاء الدنيا الوسيعة …
بعد أعوام كثيرة جداً جداً … تائباً .. خائباً .. تكركرت عائداً … أبحث عن البلدة …
جئت … أُفتش عن وطن يأوينى …
أبحث عن تربة رطبة باردة … ترم عظامى فى استراحة نومتي السرمدية …
فى رحلة أوبتي الميمونة للبلدة … أنا كنت قد رضيت من الغنيمة بالإياب …
رجعت إليها … كما ولدتني أمي .. أتدثر أثواب فقري المدقع .. الذي أبى التداوي في كل مطافاتي .. القصية في أرجاء المعمورة …
كهلاً عجوزاً عُدت … أتوكأ عصا ترحالي المنخورة … أشعث أغبر… رأسي مثل قطن منفوش … أعمش العينين ، من رهق مشاهدات الدنيوات العجيبة … أتأبط شيخوختى … وأمتطى هرم كهولتى العرجاء …
ياسبحان … عُدت للمكان ذاته … مسقط رأسي … مدفن صُرتى ومرتع صباي …
من هنا كانت البداية … ومن هنا ربما تكون مخموشة تربتى الأزلية الموعودة …
أتأمل المكان …
فى هدوئها المريب … بدت لى البلدة فى سكونها الخامل … كأنها هي ..
أشم عبق رائحة المكان … كأنه هو …
أحك عيناي … كأننى فى حلم قديم …
أحدق فى وجوه المارة … من سابلة الطريق حولي…
أتأملهم بحذر … ثمة خوف عظيم كان ينتابنى منهم … أنا كنت غريبا عليهم … كانوا يشبهون وجوه أناس كنت أعرفهم فى الزمان القديم …
بحذر شديد أستوقف بعضهم … بخفوت جداً … كنت أسألهم عن معالم كثيرة كنت أعرفها …
عن موردة الحطب …عند مقابر ود أزرق …فى شارع سنكات جبرونا
وعن فريق البحيرية …
و دكان زلفو … جنب كبرى خور ود أبو شنب …
وعن سوق أم سويقو …
ودكان طير البقر… وطاحونة سيفين …
وعن ود الفتلي.. وصافيات السمينة …
وعن أبو جبل … وكبرى حجة عشة …
وقبة السني … وقباني …
و جامع الحكومة وشعيبو الدرويش …
وعن حي المدنين وفريق الحلبة …
وعن حلقة رفع الأثقال وكمال الاجسام في نادي النيل …
وعن ملاكمات خدورى وحرفنات حمورى …
وعن الكاشف وقهوة ود العود …
وعم عيسى والمكتبة الوطنية …
وجنينة كعكاتي والبوستة وشيخ حمد النيل وقططه الخمسمائة …
وعن ناس الرسالة بت خادم الله …
وعن أولاد خلف الله وحسن جاد الله …
وعن كثيرين كنت أعرفهم …
لكنهم كانوا ينظرون إليّ شذراً … يبتسمون فى بلاهة عجيبة … ثم بعجلةٍ سريعةٍ … فى سخريةٍ متهكمة يغمغمون …
طفشوا … طفشووو
راحوا … رآآآآآحو
فاتوا … فآآآآآتو
ماتوا … مآآآآآآتو
أغرقُ فى الأسى … لا حول ولا قوة إلا بالله …
أحوقل وأسترجع …
وعلى طريقة أهلنا الطيبين … فى زمان ذاك … أنا كنت أفكر …
أن أخط بيان حضورى على بوابة المدينة ، على طريقتنا القديمة …
أن أكتب على الباب … عبارتنا التقليدية المأثورة …
… (حضرنا ولم نجد كم ) …
لكننى لما حدقت فى الأرض … المصمتة بالأسمنت والخرصانة المسلحة تحتي … ما وجدت قطعة الفحم المرمية … وما وجدت حتى بعرة عنزة قديمة … لأ نفذ بها خاطرتى الحزينة …
فى أسىً ، رفعت رأسى …
بلا عينين كُنت أحدق … فما رأيت بوابة أمامى …
وما رأيت حوائط الجالوص الطينية … وما وجدت حتى عبق رائحة البيوت القديمة ..
تحسرتُ … بكيت … وفى نفسى تساءلت …
يا إلهّى … ترى … أين ذهبت البلدة ؟؟؟
ود مدني 23 مارس 2014م