(المنظراتية).. لا يخافون في التنظير لومة ضحية
ريبورتاج: الريح عصام جكسا
“التنظير”.. قد يكون عادة أو ظاهرة سودانية صرفة، يندر وجودها في أي دولة أخرى في العالم، فعاداتنا وتقاليدنا التي تفتح مجامل التعامل، والتعاون مع بعضنا على (السجية)، دون حواجز، تتيح للبعض فرصة حشر أنوفهم، وأفواههم، في كل موقف، وفي كل زمان ومكان، دون أن يطلب منهم ذلك.
و(المنظراتية) تتنوع تنظيراتهم حسب مقتضى الحال، كل منهم أستاذ كبير في تخصصه، وبروفيسور جهبوذ في غير تخصصه، وصلوا بكدهم وتعبهم وعرقهم الغزير إلى هذه الدرجة الرفيعة من (أذية) خلق الله. فهناك منظراتية إستادات كرة القدم، الذين يهاجمون الحكام والمدربين واللاعبين، وينتقدون طريقة وخطة اللعب، فتجد الواحد منهم لا علاقة له بعلم التدريب ولكنه يصر على أن طريقة اللعب (4 – 4 – 2) أفضل لفريقه من طريقة (3 – 5 – 2) التي يعتمد عليها المدرب.
وهنالك منظراتية (المقابر)، وهم الفئة الأشهر في علم التنظير، وهؤلاء سيماهم في (أصواتهم)، تجدهم يقفون بعيداً عن (المقبرة) ويظلون يصدرون أوامرهم وتوجيهاتهم بأصواتهم (الجهورة)، ويلاحظ على هذه الفئة بأنهم دائماً مختلفون في آرائهم، ومع بعضهم، فبينما يطلب أحدهم تعميق (ود اللحد) ينبري له منظراتي آخر، (ياخي كده كويس، ما محتاج حفر)، وفي بعض الأحيان يتحول الجو (الحزايني) إلى جو ملغم بالاشتباك، عندما يختلف (منظران) أو أكثر على رؤية فنية معينة لشكل المقبرة أو طريقة حفرها.
ويمتد (التنظير) ليشمل (منظراتية) المرور، والطب والبناء وفي حالات البيع والشراء، ففي كل منها علماء، لا يخافون في التنظير لومة لضحية من ضحاياهم.
وضعت ظاهرة (التنظير) المتفشية بكثرة تحت المجهر، واكتشفت أنه عالم آخر يستحق البحث والاستطلاع.
يقول عبد الله الزين: أعتقد ان التنظير له علاقة بالفراغ، فكل واحد فاضي عايز يعمل قاضي، وبالمناسبة عندي تجربة شخصية، ففي يوم من الأيام، فكرت استأجر دكان لبيع أواني منزلية، وفجأة تجمع حولي، ثلاثة من جماعتنا، واحد اقترح تخصيصه كمركز للاتصالات، وواحد تاني، نصحني عشان (أعملو) مطعم، لأنو الناس ما ح (يبطلوا) أكل، والتالت طالب بي مغلق، لأنو حركة البناء لا تتوقف – كما قال – أمام إصرارهم عملت بنصيحة الأول، مركز اتصالات، وبعد ثلاثة شهور، طلعت خسران، والمشروع فشل جمعت بعض الأموال مرة أخرى ووجدت أمامي نفس الجماعة، وسمعت نفس الكلام والتنظير، (المطاعم بتجيب دخل كويس، المغالق ضاربة السوق) أحسن حاجة عملتها إني هربت منهم وصرفت نظر عن المشروع.
من كثرة التنظير كدت أفقد حياتي، هكذا ابتدر محمد عز العرب حديثه: (أنا مريض بالقولون العصبي، ولا أحبذ تعاطي العقاقير الطبية، وغالباً ما اعتمد على الأعشاب لتسكين الآلام، قبل أيام رقدت طريح الفراش، وشعرت بآلام شديدة في المعدة والمصران، وجاء أحد الذين يفتون وينظرون في كل شيء وطلب مني تعاطي نوع معين من الأعشاب الطبية، لأكثر من أربع مرات في اليوم، رغم شكوكي في صحة ما قاله عن الوصفة العشبية، بسبب ثرثرته الكثيرة، ومبالغته في الوصف، تعاطيت الجرعات – حسب روشتته – لمدة ثلاثة أيام، ولولا عناية الله لكنت اليوم في عداد الموتى، فقد شعرت بتقلصات شديدة، وتضاعفت الآلام، إلى ان تم انقاذي بالمستشفى..!
والتنظير ليس عالماً خاصاً بالرجال فقط، فلبعض النساء معه صولات وجولات: وتقول (حسناء) أنها كانت تستخدم أنواعاً معينة من الكريمات لوجهها، قبل أن تطلب منها إحدى صديقاتها استخدام نوع آخر زعمت بأنه الأفضل والأجود من غيره، فقلت في نفسي: (عليّ أن أجربه.. لعل وعسى يزيل الكلف وبعض البقع)، ويا ليتني لم أسمع نصيحتها الغالية، فقد تحول وجهي إلى لون أشبه بلون الفشفاش، واضطررت للجوء للأطباء، وأصبحت زبونة دائمة للعيادات الخاصة، ومن يومها قررت عدم الاستماع لأي نصائح من منظراتي أو منظراتية..!
ويستعرض حسن صديق، جملة من المواقف الطريفة التي يتدخل فيها المنظراتية ويضرب بعض الأمثال: إذا فكرت في البناء على قطعة أرض، ستجد العشرات ممن يتطوعون بأنفسهم ويزعجوك بإقتراحاتهم، أو في حقيقة الأمر (تنظيراتهم)، فيقول لك أحدهم: (أعمل الصالون هنا.. ما ممكن الغرفة تكون جنب الحمام) ويتدخل آخر: (الحيطة لازم تكون عالية.. عشان الحرامية.. وكده).. وإذا فكرت في شراء سيارة، فستجد من يقول لك: (العربات الكورية سريعة وما بتصرف بنزين.. أوعك من الهكر)..
