(وردي) ..أحبك حقيقة.. وأحبك مجاز

0 169

عبدالمنعم محمد إسماعيل (منعش)

عبدالمنعم محمد إسماعيل (منعش)

هو أسطورة إن شئت؛ ولدت في أهرامات الحضارة النبوية العظيمة، وطمبوراً مترعاً بالحنين والشكوى، وقيثارة ترقص على خطى لقاء العاشقين، ذو شخصية آسرة، وكاريزما ساحرة، معتد بنفسه من غير تكبر، شامخاً كالطود الذي لا تهزه الرياح، جاء إلى الخرطوم حاملاً معه أمل أن يصبح مغنياً مشهوراً مثل إبراهيم عوض، وسعى لمقابلته ولكن الأخير نصحه بالابتعاد عن ذلك الطريق الشائك الصعب، وكتب لعثمان حسين ولكنه تجاهل الرد عليه، وتحدث عن تلك الواقعة بأسلوبه الساخر (أظن عثمان ما قدر يقرأ خطي) وبالرغم من ذلك تفوق على ابراهيم عوض أداءً وفناً وتجاوز عثمان حسين لحناً وموسيقى، منحته الجميلة المستحيلة (جامعة الخرطوم) الدكتوراه الفخرية في عام 2005م وذلك تقديراً لفنه العظيم ودوره في تطوير الموسيقى السودانية عبر مسيرة امتدت لنحو (60) عاماً، فهو ثري في بضاعته الفنية المتميزة، يمتاز بتنوع في اختيار موضوعاته الفنية فهو رومانسي، وعاشق، وسياسي، ومعلم، وأستاذ ومثقف من الطراز الأول، يحتفي بكبار الشعراء ويجالسهم في ليالي أنسه، فهو يناديها مع عمر الدوش” بناديها” ، ويصبح الصبح برفقة الفيتوري” أصبح الصبح ” ويرحل مع التجاني سعيد ” أرحل ” ويهاجر مع صلاح أحمد إبراهيم ” الطير المهاجر” ويحب بنت البلد مثل أبو آمنة حامد ” بنحب من بلدنا” ويشترك مع أستاذه الذري إبراهيم عوض في سلامة الذوق “سليم الذوق” من كلمات الشاعر الكبير إبراهيم الرشيد، وفوق ذلك كله فهو ثوري مثل محجوب شريف “يا شعباً لهبك ثوريتك” و”مساجينك” ولكنه برغم ذلك فهو نور العين وأعز الناس وفنان إفريقيا الأول فهو ذائع الصيت في منطقة القرن الإفريقي وكذلك منطقتي غرب ووسط إفريقيا.

هو إمبراطور الفن السوداني بلا منازع، ويتربع على عرش الأغنية السودانية ولو كره الآخرون، من أجمل الأصوات السودانية إن لم يكن أجملها على الاطلاق، فنجده دائم الحنين إلى البيئة التي نشأ فيها، فهي خصبة بالتراث الغنائي، والألحان، والأشعار، منذ فجر التاريخ تميزت الحضارة النوبية بالاحتفاء بالموسيقى والغناء، يغني بالطمبور وكل الآلات الشعبية الموسيقية وباللغة النوبية.

ولد محمد عثمان حسن وردي عام 1932م في الولاية الشمالية في قرية صواردة وبها بدأ تعليمه الأساسي ثم انتقل إلى شندي لمواصلة تعليمه المتوسط والثانوي ومعهد المعلمين العالي، وبعد ذلك عمل معلماً بالمدارس المتوسط والثانوية في شندي وعطبرة والخرطوم إلى أن استقال عام 1959م.

إن كان عثمان حسين مبدع في التلحين، فهو مبدع في الاختيار وأعني بذلك اختيار الشعراء والكلمات التي يتغنى بها فقد أدهش الناس عندما اختار “قسم بمحيك البدري” وهي أجمل أغاني الحقيبة، فنجده يختار قائمة مشرقة من كبار الشعراء مثل الدوش، أبو آمنة حامد، الفيتوري، كجراي، إسماعيل حسن، الجيلي عبدالمنعم، اسحق الحلنقي، محجوب شريف، محمد المكي إبراهيم وغيرهم، ولكن تجربته مع رفيق الدرب الشاعر المرهف إسماعيل حسن أحدثت له نقلة نوعية، حيث كان لقاؤهما مصادفة عام 1957م في حفل زواج كان يحيه الرائع رمضان زايد الذي قام بتعريف وردي بإسماعيل حسن وقال له هذا الفنان الجديد ذو صوت رائع تم إجازة صوته مؤخراً وحدثه أنه سمع به من الأستاذ علي شمو وطلب منه أن يقدم له أغنيات فكانت أغنية الحب والورود التي كادت أن تذهب للفنانة منى الخير، ولعل الشاعر إسماعيل وحسن والمغني وردي هما نتاج إبداع بيئة واحدة تشربت الإحساس من تدلل النخيل على أنغام نيلنا الخالد وترديد حبيبات الرمل لنغمات أشعة الشمس ونور القمر، بيئة تجمع المتناقضات، رمال ومياه، حرارة وبرودة، وكذلك تقارب العمر بينهما جعلهما يؤسسان لمدرسة رومانسية، وثورة وجدانية رائعة تخطت حدود الرتابة واللحن الدائري الذي كان سمة من سمات الغناء في ذلك الزمن، حيث أن الشعر المغنى كان عبارة عن رباعيات وكلمات بسيطة، قال الأستاذ حسين خوجلي: تفسيري لعمق القطيعة وتطاولها بين إسماعيل ووردي أن إسماعيل هو الذي وقف وراء ذلك لأن وردي كان (دنيا) إسماعيل، فالقصيدة أبداً معنى مخبوء، وخمر معتق، ولكنه مغلق ومدفون، والأغنية هي الشعر حينما يرفل بين الناس، والخلاف الذي نشب بين العملاقين أذن بوداع السحاب بينهما والخلاف السياسي المايوي (إسماعيل حسن) والشيوعي (وردي) حتى كان الصلح والعشاء الأخير عام 1982م قبيل رحيل أمير الرومانسية إسماعيل حسن(سماعين) كما كان تسميه أمه (حد الزين) .

سجل للإذاعة السودانية حوالي (300) أغنية اتسمت بالروعة والجمال، لأنه كان محباً للوطن، فنان ذو قضية ورسالة، ليس همه جمع المال والشهرة المدوية كما يحدث لصغار النفوس من أشباه المغنين الذين يشوهون وجداننا، ويربون أجيالنا على الإسفاف والابتذال.

مواقفه السياسية الصلبة جعلته رهين السجون والمنافي الإجبارية والاختيارية وذلك منذ فجر الدولة الوطنية وحتى رحيله قبل أن يعتزل السياسة، ولكنه كان الوطن الكبير، وإلياذة السودان التي سوف يتذكرها الناس مهما تقادم بهم الزمان.

توفى عام 2012م وترك المآقي متفجرة بالحنين إلى ذلك الزمن الجميل وتلكم الوطنية المفقودة.

Leave A Reply

Your email address will not be published.