(وردي) ..أحبك حقيقة.. وأحبك مجاز
عبدالمنعم محمد إسماعيل (منعش)

هو إمبراطور الفن السوداني بلا منازع، ويتربع على عرش الأغنية السودانية ولو كره الآخرون، من أجمل الأصوات السودانية إن لم يكن أجملها على الاطلاق، فنجده دائم الحنين إلى البيئة التي نشأ فيها، فهي خصبة بالتراث الغنائي، والألحان، والأشعار، منذ فجر التاريخ تميزت الحضارة النوبية بالاحتفاء بالموسيقى والغناء، يغني بالطمبور وكل الآلات الشعبية الموسيقية وباللغة النوبية.
ولد محمد عثمان حسن وردي عام 1932م في الولاية الشمالية في قرية صواردة وبها بدأ تعليمه الأساسي ثم انتقل إلى شندي لمواصلة تعليمه المتوسط والثانوي ومعهد المعلمين العالي، وبعد ذلك عمل معلماً بالمدارس المتوسط والثانوية في شندي وعطبرة والخرطوم إلى أن استقال عام 1959م.
إن كان عثمان حسين مبدع في التلحين، فهو مبدع في الاختيار وأعني بذلك اختيار الشعراء والكلمات التي يتغنى بها فقد أدهش الناس عندما اختار “قسم بمحيك البدري” وهي أجمل أغاني الحقيبة، فنجده يختار قائمة مشرقة من كبار الشعراء مثل الدوش، أبو آمنة حامد، الفيتوري، كجراي، إسماعيل حسن، الجيلي عبدالمنعم، اسحق الحلنقي، محجوب شريف، محمد المكي إبراهيم وغيرهم، ولكن تجربته مع رفيق الدرب الشاعر المرهف إسماعيل حسن أحدثت له نقلة نوعية، حيث كان لقاؤهما مصادفة عام 1957م في حفل زواج كان يحيه الرائع رمضان زايد الذي قام بتعريف وردي بإسماعيل حسن وقال له هذا الفنان الجديد ذو صوت رائع تم إجازة صوته مؤخراً وحدثه أنه سمع به من الأستاذ علي شمو وطلب منه أن يقدم له أغنيات فكانت أغنية الحب والورود التي كادت أن تذهب للفنانة منى الخير، ولعل الشاعر إسماعيل وحسن والمغني وردي هما نتاج إبداع بيئة واحدة تشربت الإحساس من تدلل النخيل على أنغام نيلنا الخالد وترديد حبيبات الرمل لنغمات أشعة الشمس ونور القمر، بيئة تجمع المتناقضات، رمال ومياه، حرارة وبرودة، وكذلك تقارب العمر بينهما جعلهما يؤسسان لمدرسة رومانسية، وثورة وجدانية رائعة تخطت حدود الرتابة واللحن الدائري الذي كان سمة من سمات الغناء في ذلك الزمن، حيث أن الشعر المغنى كان عبارة عن رباعيات وكلمات بسيطة، قال الأستاذ حسين خوجلي: تفسيري لعمق القطيعة وتطاولها بين إسماعيل ووردي أن إسماعيل هو الذي وقف وراء ذلك لأن وردي كان (دنيا) إسماعيل، فالقصيدة أبداً معنى مخبوء، وخمر معتق، ولكنه مغلق ومدفون، والأغنية هي الشعر حينما يرفل بين الناس، والخلاف الذي نشب بين العملاقين أذن بوداع السحاب بينهما والخلاف السياسي المايوي (إسماعيل حسن) والشيوعي (وردي) حتى كان الصلح والعشاء الأخير عام 1982م قبيل رحيل أمير الرومانسية إسماعيل حسن(سماعين) كما كان تسميه أمه (حد الزين) .
سجل للإذاعة السودانية حوالي (300) أغنية اتسمت بالروعة والجمال، لأنه كان محباً للوطن، فنان ذو قضية ورسالة، ليس همه جمع المال والشهرة المدوية كما يحدث لصغار النفوس من أشباه المغنين الذين يشوهون وجداننا، ويربون أجيالنا على الإسفاف والابتذال.
مواقفه السياسية الصلبة جعلته رهين السجون والمنافي الإجبارية والاختيارية وذلك منذ فجر الدولة الوطنية وحتى رحيله قبل أن يعتزل السياسة، ولكنه كان الوطن الكبير، وإلياذة السودان التي سوف يتذكرها الناس مهما تقادم بهم الزمان.
توفى عام 2012م وترك المآقي متفجرة بالحنين إلى ذلك الزمن الجميل وتلكم الوطنية المفقودة.