ملحمة أبناء الشمس الأوباش

0 184

يقصها: علي عبدالله بابكر

            الذين لم تصلهم، إخبارية حاج (دينار).. السرية المشفرة.. كانت قرون السوق الاستشعارية، في روؤسهم.. قد أنبأتهم، بما يوشك علي الوقوع.. الأجواء بدت متوترة، ملبدة بغيوم الأقوال السوداء، والشائعات المسمومة.. التي تفشت قبل مدة طويلة…

           تواترت الأصداء، في النفوس.. بين مقبل ومحجم.. خفاف القلوب الجبناء.. اكتفوا بارتداء الجلاليب النظيفة، داوموا على الحضور للسوق.. لمتابعة الموقف عن كثب.. وللسخرية، على نكبات المقامرين الآخرين..

          أصحاب المجازفة.. لم يركنوا للتهديدات الجوفاء، وكلام الجرائد، توكلوا على الواحد الأحد.. وباشروا أعمالهم بلا تردد…

                   “التجارة عايزة الجسارة”

         عبد الرازق.. همس لنفسه.. في تحد ظاهر، بهدوء وأناة، بسط مفتاح الرازق.. نثر زخات الماء، بيده… يرطب الجوال الأغبر.. بعناية فائقة، اصطفت الأكوام الحمراء، زينها وزخرفها بأوراق الجرجير الخضراء.. توزعت قطع البصل الأبيض.. تسد الفراغات المتاحة.. رشها بالماء مرة أخرى.. تلامعت وتراقشت، قطرات الماء ندية على ثماره..

         تفرهد.. زهت الألوان.. بدت أكثر نضارة وطزاجة.. تأملها في إعجاب..  مثل لوحة طبيعة صامتة..  لفان جوخ..  واستغرق..

           حين رفع رأسه.. كانوا فوقه تماماً.. بعدتهم وعتادهم سعداء بالصيد الثمين.. لم يكن ثمة ما يقال، وليس من طريقة.. ليولي الأدبار.. استسلم في خنوع..  سبقه الجوال، إلى جوف الكومر…

                   وكان استفتاح الحملة…

تبسم الكولونيل.. الغارق في أسماله الطحلبية.. تحت عمامته الصغيرة الحمراء.. انتفخ الصدر، المزدان بالأشرطة والأوسمة والنياشين.. التي أهداها لنفسه..  متوجاً إمبراطوراً للسوق، بلا منازع..

             امتدت أصابعه، في نشوة تداعب كتلة، الشعر مبرومة الأطراف، تحت أنفه..  يداري فرحة البشارة بالنصر…

            أواسط القرن كان.. يلقب حاج (شلن).. بكرور الأعوام والسنين.. كبر الاسم.. نما وتحور.. فأصبح حاج (طرادة) حيناً.. ثم أضحى حاج (جنيه) فيما بعد..  وباطراد التضخم الأخطوبوطي.. أمسى به الحال في خاتمة مطافه.. إلى حاج (دينار)..

           ضاع الاسم، الذي نداه به أبوه.. حج مكة مرتين.. لم يشبع، و لم يتب من أخذ الجزية.. وزاد عتواً…

****

          حاجة حبيبة… الجالسة فوق ركام سنواتها السبعين… بعينيها المعمشتين.. لم تميز كنه السيارة.. التي ربضت أمامها… فجعت وهي منهمكة،  في تعبئة أكياسها…  بالصوت يصدر التعليمات…

  • أرفع الحاجة دي

         أدركت أن الشباك، قد صادها.. تمثلت المسكنة والبلاهة.. كأن الأمر لا يعنيها…

        رمى الخفير،  طبق الفول والتسالي، إلى جوف الشاحنة…

ثم انتهرها في عنف…

  • أركبي يا حاجة…

جاءت إجابتها.. حاسمة وقاطعة..

  • ما نركب

حاول استدراجها، نحو الفخ..  وأدركت..

  • الحاجات دي  مش  بتاعتك  إنتى..؟؟

هزت رأسها بعصبية… وبفم مذموم في عنف.. خرج النفي البات.. من أذنيها ومنخريها…

  • أم.. أمم ..

حوم الإخفاق، يلف الكولونيل…  في صيد اللبوة الهرمة…

فانتهرها محاولاً إرباكها..

  • يا ولية ما تتكلمي .. الفول دا.. مش حقك إنتي؟؟؟
  • ما حقي..

و أسقط في يده…  لكنه تمادى.. حنق على خيبته..  بغلظة صاح في تابعه..

  • أرفع الولية دي فوق…

              لما اندفع عبد الساوي.. نحو المرأة.. ذابت وتكومت.. بكل رهق سنينها السبعين، في كتلة واحدة، على الأرض..

             تفجر كل خوفها، الغريزي والتاريخي من… البوليس والكلاب.. في تلك اللحظة…

        بصوت هز أرجاء المكان … بالبكاء والتصويت.. ولولت بفمها ويديها…

  • وآآ  آييوو  الا… وآآ  آىيووه  الا…

            أثارت حرقة النواح العميق… عطف قلوب سابلة الطريق… تكاثر الجميع حول العجوز المنكوبة… طفح الإشفاق من الوجوه.. الموسومة بالصبر والمكابدة… غصت القلوب بالمرارة… على الشيخوخة الجريحة…

           ترقرقت دمعتان، من عيني سوسن… فأشاحت بوجهها عن المنظر…

وعبد الساوي.. حائر كيف يفعل..؟؟

          وحين هم يجرها…  انهالت عليه الرماح المسمومة….

             كانت العبارات العفوية…. قاسية تخترق منه القلب مباشرة.. متدافعة من كل الأفواه… في الحلقة حوله…  بإيقاع متصل…

  • ياخي  إنتو ما عند كم  رحمة؟
  • ياخي ما تخلوا المساكين يسترزقوا
  •  ياخي إنت ماهيتك بتكفيك ….
  •    والله  يا وليدى.. العيشة بقت قاسية خلاص.. زي التور الشوش… من الصباح نصارع للعيشة..
  • ـ وعلي الطلاق… ياحاج…  ما  جايبة  مريسة  تام زينو…
  • ـ بس تعرفوا للمساكين ديل..  ما ياها ديك التماسيح..  مالية السوق.. تبلع قطر ذاتو…
  • ـ ياناس الكشة… شكيتكم على الله… إنتو والملاريا…

            انهار عبدالساوي تماماً… تخلخل قلبه… وتصدع من دفق الزجر المتواصل… 

            توقف وأهمل المهمة… صعد خائباً إلى العربة..  متبعاً بسيل من الخزي  والاستهزاء …  همس لنفسه بمرارة…

  • ـ والله دي ما شغلانة… والله دي ما شغلانة…

****

             في الجانب الآخر، من السوق.. كانت المعلومات معتمة.. عن بدء الحملة.. فبدأ ضاجاً، فائراً بالخلق، وحركة الباعة… من فراشة وتشاشة…                لما أحسوا بالبوادر..  تناقلت الوكالات المحلية، الأنباء في سرية عجيبة…

             تحركت الحشود بخفة.. تؤمن المخابئ، وتتفنن في تمويه أشكال البضائع، اندغم البعض.. في تثبيت نعالهم، على الأقدام، وكفكفت أطراف الملابس الفضفاضة.. استعداداً للهروب الكبير…

          حسناء السوق، وملكة جماله “حوايه”… جلست وبدأت العمل باكراً… أطلقت بخورها، تحاول محو الروائح الفائحة.. من الأرض والجدران.. المترعة بالسوائل البشرية النفاذة في جوارها..

         الإخبارية.. وصلتها متاخرة جداً… لابد من قليل صبر، لتصريف جزء من البضاعة على الأقل… فالعصيدة، لاتصمد على التخزين…

أحكمت تحوطاتها، ومحاذيرها… أعلنت حالة الطواريء القصوى لتابعيها البانجوزين الصغيرين.. (أتيم) و(تنقلو) ..

        فأصدرت توجيهاتها الصارمة..

  • إنتي  يا ..(أتيم)  تفتحي عيونك سمح… أكان شفتي أي حركة… عجلة عجلة.. تشيلي جردل الأسيدة.. وجردل الملاح.. تجري تدخلي جوه الخور..
  • وإنتي  يا..(تنقلو)   عجلة عجلة….. تلقطي صحان….. أكان جماعة ولا خلصتي  أكلهم  ذاتو…. تشيلي شوال عدة… تجري تدخلي جوه  الحفرة  هناك..

 ـ وأني.. تراني نرجوهم هني.. أكان  دواس  دايرين..

نداوسوهم..

                     تحفزت وانتظرت…… باعت كل العصيدة ولم يأتوا…..

                                                      ودمدنى  1996

                                                      علي عبدالله بابكر

Leave A Reply

Your email address will not be published.