زى المغنطيس أجذب لكل جميل
عبد المنعم منعش
قالها وهو يتحدث عن نفسه ومقدماً لديوانه الجميل الذي يزين وجداننا بأروع المفردات الراقصة إن جاز التعبير فهو معتق بالجمال ومفعم بالزخارف اللفظية، يحتفي بالحبيب بل ويجعله في منزلة أقرب إلى التقديس فلا مس ولا مساس، وأذكر أنني سمعته في إحدى اللقاءات التلفزيونية منتقداً للرائع إسماعيل حسن في قوله: (وضعتك في مكاناً ما مكانك) قال: (أنا أصلاً لا يمكن أقول لحبيبي كدا) وبغض النظر عن الخطأ النحوي الوارد في الشطرة لأن في حرف يجر الفيل فما بالك بالحبيب، وقلت معلقاً على هذا النص لصديقي نحن في السودان لا يجوز لنا جر الحبيب حتى وإن جاء بعد كل حروف الجر، فاعتراض عمنا الذي نحن بصدد الحديث عنه ليس على النحو بل على الفكرة نفسها واسـتطرد قائلاً لإسماعيل حسن 🙁 شعرك زي قرعة الشحاد) كناية عن تناول إسماعيل حسن لمواضيع شتى في قصائد وليس الوحدة العضوية كما يظن البعض، وهذا خلاف بين كبيرين لكل منهما مدرسته الخاصة التي ينطلق منها وينبوعه العذب الذي ينهل منه.
ولد شاعرنا في حي (أبو روف) بمدينة أم درمان عام 1909م وكان والده معلماً للغة العربية والقرآن الكريم وتنقل بين معظم مدن السودان كعادة المعلمين قديماً، وكان بيتهم قبلة أنظار كثير من الذين شغفوا بالأدب العربي ومن بينهم الشاعر الفذ الفحل محمد سعيد العباسي، إنه عمنا محمد البشير عتيق، أمير شعراء الحقيبة كما أسميه وذلك حسب اعتقادي بأن المجدد الأول قبل عمنا الرائع (أبو الريح) الشاعرعبد الرحمن الريح، وكان من زملائه الأديب والسياسي ورجل الدولة محمد أحمد محجوب وأحمد بشير العبادي ونصر الحاج علي وصديق نديم والطبيب التجاني الماحي، ولعل مهنته “البرادة” علمته الكثير من سمكرة المفردات كما يحلو للبعض وسبكها وسبر أغوار المعاني ويمتاز شعره بالأوصاف الجمالية والحسية المتدثرة بالعفة فهو يقرب الإشارة بالعبارة، تأثر كثيراً بالرائع الشاعر صالح عبد السيد(أبوصلاح) وصار من أعز أصدقائه بعد أن تعرف عليه بواسطة الشاعر الصادح عمنا عمر البنا وهو من مدرسة أبو صلاح التي تضم عمر البنا وعكير الدامر وعتيق أما المدرسة الثانية فيتزعمها عمنا إبراهيم العبادي وعبيد عبدالرحمن وسيد عبدالعزيز وهما مثل مدرستي جرير والفرزدق وقد حدث بينهما ما حدث وسوف نذكر ذلك في مقالات أخرى عن الحقيبة، تغنى له أساطين الطرب أمثال كرومة والأمين برهان وعمنا خضر بشير وعثمان حسين غيرهم، كذلك قربه من عبدالرحمن الريح وهما تقريبا من نفس الفئة العمرية جعلهما يمثلان تياراً جديداً من النغم والأغاني الخفيفة التي هي أقرب إلى ايقاع التمتم الذي يناسب الأغاني الشبابية الراقصة، فهو يرسم صور جمالية كانت موجودة في تراثنا:
ما الفي تهامة وشام مرعاه نال وبشام
ده المابينا لو غشام والبين شلوخ ورشام
يسبي الوليد وهشام
لعل لزوم ما لا يلزم من السمات المميزة لشعر عمنا عتيق فمثلاً:
يا نسيم بالله أشكيلو++ تباريح شوقي وهيامي
يانسيم عن شخصي أروي له++ حديث الحب وتأويله
وبالغ شرحي تطويله
وكذلك تأثره بالموشحات الأندلسية في عصورها الزاهية يظهر جلياً في تغنيه بالوطن الغالي:
أهواك يا بلادي يا جنة خلودي
يا مصدر وجودي ويا موطن رقودي
آبائي وجدودي مجدي واعتدادي
ومن ألحان عمنا خضر بشير له كلمات رائعة من السهل الممتنع:
خاطبته بى لغة الهوى فأجابني بى لغة العيون
في كل مرة كنا انا وهو+++ في روض جميل ثمره استوى
وهناك مكان طلق الهوى +++ مجلس لكل طريف حوى
كذلك نجده أحياناً يبالغ في ذكر محاسن محبوبه مثل عمر الفارض فيقول:
طرفي إذا تأمل في حسان المواكب ++ وضياء الكواكب
والبدر المكمل
برضي أراها دونك بل وحياة عيونك
أنت لطيف وأجمل
تأمل الاستعارة في قوله “طلق الهوى” وكذلك تغنى بالجزيرة وحاضرتها عروس المدائن (مدني):
أرض الجزيرة خضرة وغريه وجمالها ساحر
أقطانه عسجد وبياضها أجود ورنيه أوجد
أسواق كثيره وأثمان وفيره
مدني الجميلة عروس المداين إشراقة باين
نتمنى أن تكون مدني كذلك فهي تستحق ذلك لأنها مهد الوطنية ومنبع الفن والحب والجمال، وفي تسعينات القرن الماضي ودعنا عمنا “عتيق” إلى دار الخلد تاركاً لنا تراثاً ينبغي علينا أن نتعهده بالدراسة والتحليل والنقد فهو آخر شعراء الحقيبة رحيلاً.