الحرب الناعمة (2)

0 144

د/ صفية إبراهيم محمد

يختلف النظام الأسري من مجتمع إلى آخر، وتلعب العادات والتقاليد دوراً كبيراً في تحديد مفاهيم النظام الأسري، كما أنّ الدين يلعب أكبر الأدوار في صياغة بنيويّة النظام الأسري وهذا ما يفسّر التمايز الكبير بين النظام الأسري في الإسلام والنظام الأسري في الغرب.

 أدى خروج الدين من المعادلة الاجتماعية الغربية إلى إيجاد أنماط حياتيّة جديدة فتحولّت الأسرة من كيان إجتماعي قوامه العلاقة الشرعية بين رجل وامرأة إلى مؤسسّة تجاريّة أو شركة قوامها المنفعة والقيّم الماديّة دون غيرها وعليه أصبح  التحررّ الكامل والمطلق من كل الإلتزامات ومنطق الشراكة أهم مميزاتها.

 ويخضع تقسيم الحياة بهذه المؤسسة للمنطق الرياضي في أدقّ التفاصيل، حيث يتم تقييد الممتلكات باسم إحدى الشريكين وهذا ما يفسّر سهولة الانفصال. وهذا يؤكد أن  الإطار المرجعي مبني على قيم التّعاقد كأساس أوحد لبناء الرّوابط والعلاقات الاجتماعيّة عموما والأسريّة على وجه الخصوص، بعيداً عن قيم التّراحم والتّسامح. فالرجل وفقاً للمنطق العائلي الغربي ليس مكلفاً بإعالة زوجته اقتصادياً، لأنّه يجب عليها كالرجل الخروج إلى أسواق العمل والبحث عن عمل، وإذا كانت محتاجة فهناك مؤسسّات اجتماعية تقدّم مساعدات اجتماعية للمحتاجين، أما الأبناء فكثيراً ما يلجأوون إلى ترك ذويهم إذا بلغوا سن الثامنة عشر.

وهذا لا يعني أنّ النظام الأسري في الغرب كلّه على هذه الشاكلة بل إنّ هناك عائلات ما زالت محافظة على القيم المسيحية وتطالب بضرورة العودة إلى شرعنة مؤسسة العائلة بالقيم المسيحية.

أمّا النظام الأسري في الإسلام فهو يختلف جملة وتفصيلاً عن النظام الأسري في الغرب وفي النظام الإسلامي ننظر إلى الأسرة ككيان متضامن ومتراصّ له أهداف ومرجعيّة موحّدة (الشرع الإسلامي)، قوامها العلاقة الشرعية بين رجل وامرأة حيث العقد الشرعي شرط للزواج، وهناك مجموعة شروط يجب أن تتحقق في الزوج كما في الزوجة ومن شأن هذه الشروط أن تحصنّ مؤسسة العائلة في الإسلام وتحفظ الحقوق كما الواجبات.

 ولم يفض الإسلام في شيء مثلما أفاض في بناء الأسرة وآليات ذلك، وقد خصصّ علماء الإسلام كتباً مفصلّة في فقه الزواج والطلاق وتربية الأولاد وما إلى ذلك من الكتب ذات الصلة. والذي يجمع بين الزوج والزوجة هو منظومة القيّم والمبادئ الإسلامية النبيلة والرائعة والكفيلة بصيانة العائلة من التدهور وحتى مجرّد الخطأ، والعلاقة بين الزوجين تقوم على (مبدأ التكليف) فهما مكلفان بإعداد نشئ مستقيم للمجتمع الذي إذا تكاملت خلاياه الأولى تكامل تماماً كخلايا الجسد التي إذا استقامت استقام الجسد كله (مبدأ التكامل والتعاضد)، ولذلك واجب الأب في المؤسسة الأسرية الإسلامية أن ينفق على زوجته وأولاده، بالإضافة إلى أنّه من شروط الزواج تقديم مهر للمرأة لإشعارها بكرامتها ومكانتها.
فالنظام الأسري في الإسلام يجب أن يخضع للإسلام في تفاصيل مسار العائلة، وحكمة ربط الزوجين بعقد شرعي هو أن تكون المرجعية في حياة العائلة للشرع الإسلامي الذي يضمن لكل ذي حقّ حقّه.

 ومع هذه المفارقة البالغة حدَّ التناقض بين المفهومين نرى أن ثمة محاولات عديدة لفرض النموذج الغربي وعولمته دوليًّا، ومحليًّا، عبر الإعلام بوسائله المختلفة، والنخبة المتغربة، ومن خلال التنظيمات النسوية وأيضًا عبر مؤتمرات الأمم المتحدة، وتسخير سلطتها لشرعنة النموذج الغربي قانونيا وسياسيًّا من خلال اتفاقيات تتعهد الدول الأعضاء بالإذعان لها، وتنفيذها عبر لجان ومؤسسات تراقب عملية التنفيذ.

ولعل أبرز تلك المؤتمرات والاتفاقيات: اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979م)، والمؤتمر الدولي للسكان والتنمية (1994م)، ومؤتمر بكين (1994م)، والتي ركزت على قضايا ومفاهيم مركزية في الفكر الغربي ومن أهمها مصطلح الجندر الذي  اعتمد كبديل للفظ الجنس والإشارة إلى المرأة الفرد وليس العضو في الأسرة، والمساواة/ المماثلة التامة بين الذكر والأنثى، وإلغاء مفهوم “تمايز” الأدوار، وازدراء “الأمومة”، واعتبار العمل المنزلي “بطالة لأنه من دون مقابل مادي وغيرها من القضايا التي لاشك تؤثر بوعي أو بدونه علي المنظومة القيمية للأسر التي ينبني عليها جوهر وكيان الأسرة.

 كل هذا يؤكد علي أن تفسير الظواهر ينبغي أن ينبع من تعميمات قواعد ومفاهيم يتم استخلاصها (رأسياَ) من رصد وتحليل تطور الظاهرة وعلاقاتها مع كل من البيئة التاريخية والمكانية لتلك الحضارة أكثر من كونها مجرد تطبيق لتعميمات وقوانين عالمية تم استخلاصها من واقع وظواهر مشابهة في بيئات حضارة أخرى. تتباين الحضارات الإنسانية وتبعاً لتباينها ينبغي التمييز والمقارنة بين قضايا الجندر ومدلولاته التي يمكن أن تتبناها المجتمعات تبعاً لمكوناتها الثقافية والقيمية.

 و ما يدل على خطورة هذا الأمر تأكيد الدراسات الحديثة على أن المؤسسّة الأسريّة في العالم العربي والإسلامي أصبحت تنحو المنحى الغربي وبدأ يدبّ فيها الوهن وأضحت عرضة لكل العواصف التي تعصف بها لأنّها تخلّت عن الحصن الذي يحصن الأسرة من كل عوامل الانهيار والتعريّة.

وتكفي إطلالة واحدة على نسبة الطلاق والحوادث العائلية في المحاكم وصفحات الجرائد لنكتشف بسهولة أنّ تقليد النظام العائلي الغربي والتخلي عن القيّم الإسلامية الحضارية من شأنه أن يؤدّي إلى الدمار وهو معاكس تماما للبناء الذي من أجله وجد النظام العائلي في الإسلام. وطالما أننا أصحاب رسالة يجب أن يصغي لها الجميع فكان لزاماً علينا تطوير وتوجيه أدواتنا الفكرية، ليس فقط للدفاع عن مفاهيمنا الإسلامية، بل لتعميم النموذج  الإسلامي. 

Leave A Reply

Your email address will not be published.