التصوف: جدلية المتن والهامش في الثقافة الإسلامية

0 201

عبدالمنعم محمد إسماعيل (منعش)

سُئل الحلاج عن المتصوف فقال: (وحداني الذات لا يقبل أحداً ولا يقبله أحد). وقال آخر: التصوف هو ترك الفضول. وقال الإمام الجنيد: التصوف استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني، ونجد أن كل شخص يعرفه بحسب ما يتذوقه من السلوك والعبادة، وهو تجربة وجدانية ذاتية، لذلك قيل هو علم ذوق” من ذاق طعم ومن لم يذق حرم”.

ولكن التعريف الشامل له بأن التصوف هو: منهج إسلامي يسلكه العبد للوصول إلى لله عز وجل، لذلك قيل عنه أن الطريق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، أي أن لكل شخص طريقه الخاص للتعبد والمعرفة والسلوك ويتم ذلك عن طريق الإجتهاد في العبادات والتخلق بمكارم الأخلاق كالزهد والإيثار والتضحية والمحبة والتسامح.

وإذا رجعنا إلى صدر الإسلام الأول نجد أن المسلمين الأوائل لم يكن لهم لقب سوى صحبة رسول لله (صلى لله عليه وسلم) لذلك سموا بالصحابة، وصار اسم الجيل الذي تلاهم هو جيل التابعين، وجيل تابعي التابعين أي الجيل الذي لم ير الصحابة ولكنه رأى معاصيرهم (التابعين) وبعد أن تنافس الناس على الدنيا في عهد الفتوحات الأموية صحب ذلك تغافل عن الدين وتكالب على الدنيا وشاع إقتناء الجواري والغلمان ومعاقرة الشرب والطرب والمجون، وأصبح الدين يعيش في هامش الحياة الروحية طقوساً وثقافة مثل الزواج والطلاق وانحسر الدين إلى ما يسميه الناس الآن بالأحوال الشخصية فقط، وكان هذا في السنة المئة الأولى من الإسلام، هذا المنحى من السلوك لم يعجب بعض الناس فاختاروا منهج الإعتزال عن الدنيا وزهدوا في محاسنها ورغد عيشها وكلمة الزهد هذه لم ترد في القرآن الكريم الإ مرة واحدة في سورة يوسف: ” وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ” ولم يذكرها المولى عز وجل بأسلوب المدح والحث ولكن وصفاً لحال أخوة يوسف وهم يبيعونه للقافلة، فالنبي محمد صلوات ربي وسلامه كان يصوم ويفطر ويتزوج النساء وعندما رأى بعض صحابته يسلكون منهجاً آخر كان قوله” فمن رغب عن سنتي فليس مني”.

في هذا الجيل ظهر الحسن البصري وإبراهيم بن أدهم ورابعة العدوية التي كانت آية في الزهد فزهدت في الدنيا ثم زهدت في الجنة وصارت تقول” لم أعبدك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكن عبدك حباً لك وشوقاً إليك” ثم يقال أنها بدأت نظرية نقد القرآن الكريم عندما سمعت تالياً يقرأ  قوله تعالى ” وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون” فقالت ” هل نحن أطفال حتى نفرح بالفاكهة ولحم الطير ونحن في حضرة الجناب الإلهي؟”.

الشاهد أن التصوف بدأ في القرن الأول من الإسلام زهداً وتقشفاً وما لبث أن ظهرت عليه نظريات مستقأة من الكتاب والسنة في القرنين الثاني والثالث وأخذ المتصوفة بعض الآيات الكريمة والأحاديث النبوية محوراً لبلورة أفكارهم عن لله والطبيعة والنفس البشرية والتساؤلات الكبرى ثم دخل التصوف في طور خطير إبان نمو الثقافة العربية الإسلامية فأصبح يستقي من مصادر أخرى من أديان سماوية وغير سماوية وفلسفات هندية ويونانية وغيرها، فظهرت نظرية تأليه الإنسان للحلاج المقتول الذي جهر بقوله ” أنا الحق” آخذاً بنظرية الفناء من الفلسفة الهندية القديمة وجاءت نظرية الإشراق للسهروردي ونظرية وحدة الوجود للشيخ الأكبر بن عربي ونظرية الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي فيلسوف الصوفية الأكبر.

وإذا سلمنا جدلاً أن مؤسسة العقيدة الإسلامية أي أن العقيدة أصبحت مؤسسة إن صح التعبير بظهور كيانات القضاة الفقهاء والمحتسبين وكتاب العدل الذين يمثلون الدولة (المتن) ، فبالضرورة أن يخلق ذلك هامشاً مؤثراً للتفسير والتفاعل وحتى الإحتجاج والإعتراض على بعض الأشياء، هذا الهامش ( التصوف) الذي يمثل العامة قائلاً ” أعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله” ، ” يا واقفاً على باب السلاطين أشفق بنفسك عن هم وتحزين”.

هذه الجدلية المتن والهامش جعلت المتن ( الفقه) عدائياً وظاهرياً ولا يحتفي الإ بالأحكام العامة بحيث تصير العلاقة بين الخالق والمخلوق محكومة بسلطة الخوف والرجاء وهما جناحا الايمان، هذه السلطة يمسك بسيفها الخليفة وأعوانه بحجة أنهم يمثلون سلطة الدين، فما كان من الهامش (التصوف) الإ أن يقلب الموازين ويجعل الحب هو الرابط بين علاقة الخالق والعبد، متجاهلاً كل هذه المدارج من الحجب التي تمثلها مؤسسة العقيدة وسطوتها، فكانت النظرة سماوية ومثالية وغيبية وذاتية تحتفي بالفردية المطلقة وتنفي الوسائط، هذا الأمر هدد مؤسسة العقيدة وسلبها قدسيتها فلجأت إلى السلطان بحجة أن هذا الهامش يهدد كيان السلطة ويقوض أساسها فلا بد من التخلص منه، فكالوا له الإتهام بشعبنة الشريعة والتساهل في التقصي عن الآثار والنصوص، ورد الهامش بأن السلطة الدينية تفتقد إلى النزعة الروحية.

هذا الصراع بين الفقهاء والمتصوفة كان النكبة الكبرى والمصيبة العظمى التي أصابت الإسلام،كما يقول الأستاذ أحمد أمين، وبمقتل الحلاج بطريقة وحشية وغير إنسانية، كان هنالك صمت كبير وعميق حتى تحدث السهروردي بعد حين من الزمان، وصار القتل والتنكيل مصير كل من يتحدث عن الأفكار ويغرد بعيداً عن السرب.

Leave A Reply

Your email address will not be published.