كو.. أطاحت بأحلام العذارى
علي عبدالله بابكر “فنون”
التعب والشقاء… متسربل في شعاب حياتهن… مثل النحلة… يبدأ يومهن …
ساعة السحر.. إشعال نار الحطب للشاي والعصيدة… في الضحي.. الطحين والطبخ.. ساعة الهجير، السير الطويل لورود الماء…
الغرس والزراعة…. الولادة… ورعاية الاطفال… غير إغاظات الرجال، في تعدد و تبديل الزوجات…
أعمال شاقة مؤبدة، مدى الحياة…
وأي حياة هذه؟؟
تراكم الحزن، في دواخل سوسن… عند زيارة أختها… قابلة القرية…
بؤس عذابات النساء هناك، بنى طوابق… في شغاف القلب الرقيق… أثقل بالهم.. كاد ينفجر بالألم… يقطر وجعاً وحزناً..
الجهل مصيبة… الرجال هناك خواء… تعطل وتسكع تحت الأشجار…. يمضي نهارهم، في شرب الشاي … والسمر… ولعب الضالة..
يجب مد يد العون، لأولئك النساء البائسات… لا بد من الانقلاب…. الثورة قادمة…
انحازت لبنات جنسها… أناخت حملها، على صديقاتها… في جمعية تطوير الريف بالجامعة… تقطعت وتفطرت نياط القلوب الرقيقة… سالت الدموع أنهاراً.. من وجع إهدار حقوق المرأة هناك…
بكل العزم.. عقدت الاجتماعات الطارئة… في سرعة فائقة، جُمعت التبرعات السخية…. وانطلقت قافلة التحرير..
في عناء الرحل… الطويلة الشاقة للقرية.. تبخرت معظم الأفكار الثورية… شرب الماء المالح العكر… أدخل الشك في إمكانيات نجاح المهمة…
حتي خروف الشرتاي… الذي ذبح إكراماً.. جاء طعاماً باهتاً.. ورديئاً.. لا يشبه الأكل..
ألا توجد هنا نساء يجدن فن الطهي؟؟
لم يجدن إمراة يتحدثن إليها…. كل النساء توارين… خشية ورهبة…
الاجتماع بالرجال، أضحي ضرورة… لتبليغ الأهداف….
فى مجلس الشرتاي… لأول مرة تجلس النساء….
لم تكن أي واحدة.. من نساء القرية حاضرة… القابلة ذاتها.. خافت على نفسها ولم تحضر..
الرجال في المجلس… لم يصدقوا أن الجالسات أمامهم نساء…
النعومة… الرقة… الجمال…. ما دار في خلدهم، أن في الدنيا نساء مثل هؤلاء…
كل يسأل نفسه…
بعد هؤلاء.. هل نقول إن ما عندنا نساء؟؟
العاقب.. لم يستطع كتم هواجسه.. همس لجاره في المجلس… ود مريوم..
- خلي بالك… ديل هور الجنة البقولوهم ظاتهم !!
تبسم ود مريوم.. لمطابقة الوصف.. مع ما يدور في ذهنه..
الشرتاي نفسه.. تاه مع أفكاره… يتأملهن أثناء حديثهن.. لم يستوعب كلامهن… ما كان يشغله…
كيف الوسيلة… للظفر بزوجة أو اثنتين منهن.. يدفع كل أبقاره، وأملاكه… في سبيل الظفر بواحدة… زوجاته الأربعة… يمكن أن يبدلهن بواحدة…
الرجال في ذهللتهم وتشطيحهم… لم يفقهوا الكثير… من كلام حورالجنة.. لكن الاجتماع… تمخض عن طلب الإذن.. لإقامة ندوة عن حقوق المرأة… مساء الجمعة… وللأهمية الجميع مدعون للحضور..
****
الشباب والصبية… تفانوا في خدمة الحور.. طمعاً في خطب.. الود وأمل الزواج…
ود جادين… قال لهم… إن أولاد البنادر خائبين… ماتت رغائبهم في الزواج.. يئست منهن النساء… فجئن هنا للبحث عن الرجال……
بدت الفكرة منطقية تماماً.. حتى صدقها هو ذاته..
انتعشت أفكار الزواج عند الجميع.. سرت حمى إظهار القوة والمال والتفوق عند الرجال…
بعضهم فكر في تطليق بعض زوجاتهم… ليشغر مكاناً للعروسات الجديدة… عقدت الأحلاف وقسمت السبايا سراً…
راج الحديث.. حتى بلغ مضارب النساء…. انطلقت حمى أخرى في المعسكر..
كيف السبيل، للمحافظة على الرجال… من العشق الهابط من السماء بلا ثمن؟
لابد أن في رجالهن سرعظيم… لتتهافت عليهم، نساء الخرطوم… لابد من مقاومة هذه الشياطين…
عند مورد الماء… التقت بنات الجمعية… بنساء القرية..
طفحت غيرة حواء… بدت الحساسية المفرطة والتنافر…
قالت سوسن… تحاول بدء حوار تمهيدي:
ـ ياخواتي … إنتو تعبانات شديد….. شغالات طول النهار ورجالكم قاعدين ساكت !!
ميمونة… استفزها تعييررجال القرية… والإساءة لسمعتهم…
قالت بنفس ساخن.. تضحد الاتهام..
ـ مايقعدوا..!! دي ماياها خدمتنا… نحن الحريم ..!!
حاولت سوسن، شرح سؤالها … بصورة أخرى..
ـ يعني انتن… ماشاعرات إنكن مظلومات ؟؟
انتفضت ميمونة، في استغراب واستنكار… تستهجن التهمة…
ـ ظلم شنو… ياختي ..؟؟ المرأة الله خلقها.. عشان تخدم الراجل…
بدا الحوار غريباً… بين الطرفين… النساء لايغبطن الرجال.. على حياة الدعة والخمالة… قانعات لا يشعرن بأي غبن عليهن….
حاولت بنات الجمعية… الصبر ومقاومة الإحباط الهابط…. ليست ثمة قيمة للنفخ في قربة مقدودة..
حمامة السلام، حسناء القرية… شوقية بت محمود… أرادت تلطيف الجو الملتهب بالشجار، سألت الضيفات…
ـ إنتن قاعدات تردن الموية زينا كدي؟؟؟
تبسمت الضيفات… وانفتح باب حوار طيب…
ردت هناء في لطافة…
ـ نحنا عندنا مواسير في البيوت..
عانت كثيراً… وسط انتباه النساء… في شرح ماهية الماسورة… وكيف أنها توصل الماء للمنزل… دون عناء…
خشيت أن تحكي عن البتوجاز والكهرباء …
****
على ضوء الرتينة العتيقة… وفي الفضاء الممتد… أمام المصلى…. احتشدت القرية… في مساء يوم الجمعة….
اصطف الرجال… جلوساً علي البروش.. في المقدمة….
في الأطراف… والأجانب تناثر الشباب والصبية…
في المؤخرة… وحيث لايصل الضوء جيداً… تكدست النساء بأطفالهن…
على المنصة…. جلس أستاذ حسن… وعلي يمينه، جلست هنادي وسوسن… وعلى يساره، يسرية وسلافة…. ومن ورائهن بقية أعضاء الجمعية….
للجميع… بدا المشهد منكراً وغريباً….
كيف تجلس النساء في مواجهة الرجال؟؟؟ العين في العين؟؟
ثم أستاذ حسن…؟؟ كيف يجلس الرجل وسط الحريم؟؟؟
حبوبة أمونة قالت بغضب:
ـ نسوان آخر زمان..!!! اتحكرن زي الرجال..
النساء والفتيات… أضرمت قلوبهن بالحسد والغيرة والخوف
على رجالهن.. من زوغان الأبصار… مع حسناوات المدينة المعروضات للجميع..
الشرتاي كان أكثرهم حنقاً… على المشهد كله.. ما كان يظن أن أستاذ حسن بهذا السوء وهذه الخياسة … كيف يرضي لنفسه … الجلوس وسط الحريم ؟؟؟؟
الغضب أطاش حلمه.. في الزواج منهن.. بعد معرفته بجرأتهن وفراغ عيونهن… سقطن في نظره…. المرأة التي لا تحترم الرجل، ليست إمراة…
في مجلسه… دائماً تجلس صاحبة الحاجة… في خنوع على بعد مسافة…. لتطلب حاجتها… لم تدخل عليه واحدة بنعليها طوال حياته…
كتم غيظه وغضبه… إنهن ضيفاته… وإلا لما سمح بهذا الموقف غير الشرعي..
أسهبت سوسن… في توصيف حقوق المرأة وحريتها… وأن الإسلام والدستور أعطاها كل شيء… بالتساوي كما الرجل… وأفاضت في الحديث ….
الجميع فهموا ولم يفهموا… لكن بعض الكلمات… مثل حقوق وحرية ورأي…. أقلقت الشرتاي.. فأراد الاستفسار والتعقيب..
رفع يده طالباً الحديث… لن يستطيع أحد الاعتراض…
قطعت المحاضرة حديثها..
نهض واقفاً… رفض بإباء واستكبار، الحضور للمنصة… وسط الحريم …
تحدث في غضب… أفشى فيه كل سخطه… فيما يحدث أمامه….
تساءل في تحدٍ شديد لجمهوره:
ـ ياجماعة … المرا… ؟؟ عندها رأي ؟؟
رد الجميع … بما فيهن النساء… على شيخهم في نفي حاسم:
ـ كو …….
استمد القوة… من هزيم الحناجر… المنفعل بالحنق والنفي القاطع…
تساءل مرة أخرى:
ـ ياجماعة … المرا ..؟؟ عندها حق..؟
جاء رجع الصدى قوياً، مرة أخرى…
ـ كو ………
كسب الجولة… استعرض منتفخاً بالزهو والانتصار… فراح يعظهم…
ـ المرا… شاورها.. وخالفها…
ـ المرا… حقها الورود… حقها الوضوع…. وحقها التكل….. دي… ياهو حقها عندنا…. لكن جنس كلامكن دى… ما بنعرفوا!!
صادف حديث الرجل… الهوى في النفوس… خاصة من النساء… فانطلقت الزغاريد لفصاحة الشيخ… وساد الهرج والمرج ..
أستاذ حسن… مديرالندوة… خاف انفلات زمام الأمر… وضياع الموضوع إذا استمر الرجل في حديثه…
فقال مطيباً خاطره:
ـ أبوي الشرتاي.. خلي الأستاذة.. تكمل كلامها.. و بعدين نخلوك تعقب.
استجاب الرجل وجلس…
ارتبكت المحاضرة، من المقاطعة… التي نسفت الحديث من أساسه…
انكمشت مشاعرها بالحرج.. سرت في أعماقها برودة الخيبة، أدركت أنها جاءت… قبل الأوان بكثير..
كان عليها أن تأتي إلى هنا … بعد خمسين أومائة عام… لتقول مثل هذا الكلام..
استجمعت بقايا هزيمتها… لتقول إن على المراة، أن تعي دورها تماماً.. لتلحق برصيفها الرجل، وإنه آن الأوان لتلحق بركب المدنية والتحرر، وووو…….
لم يستطع الشرتاي صبراً… تفجر غضبه بغتة… نهض دون استئذان… قام مقاطعاً.. في عصبية، وحنق شديد قال:
ـ يا جماعة كلام دي مابنفع معانا… ثلاثة…
ورفع ثلاثة من أصابعه وواصل الحديث
ـ تلاتة… المرا.. والنقارة … والحمارا… غير العصا…
ما عندهم بصارة..
ضج المكان بالضجيج والزغاريد…. مباركة تؤيد حديث الشرتاي…
ـ يا جماعة.. كلام الحريم دي… بينفع معاكم؟؟؟
في حسم قاطع جاء الصدي:
ـ كو…..
فانتهرهم في غضب وانفعال……
ـ يللا.. قوموا…. فروا…. شوفوا ليكم شغلة..
وافرنقعت الندوة بأمر الرجل… وطاحت أحلام فتيات الجامعة في تغيير صورة لم تكتمل ملامحها بعد…
ود مدني 1995م
علي عبدالله بابكر