الناطور
بقلم: علي عبدالله (فنون)
أبوعثمان …
يااا.. أبوعثمان….
أنت…. تسمعنى جيداً يابو عثمان…. وأظنك تفهمني بوضوح…
حالتك مستقرة الآن….. والحمد لله…..
المسألة بسيطة.. كما أظهرت الصور المقطعية…. وستتعافى إن شاء الله… بالعلاج وبكثير من الترييض والتدليك اليومي….
ليس ثمة ضرورة أن تتكلم الآن…
فقط استرخ، وارتح فى رقدتك..
شقك السليم.. يمكن أن يقود حركة جسمك بسهولة.. التماسك مهم في حالتك الراهنة…
أنا أفهم إيماءتك وإشاراتك بوضوح.. فلا تجهد نفسك بمحاولة التفكير في الكلام…
الجماعة هنا… في رابطة بلدتنا بالمملكة… جمعوا لك مبلغاً محترماً من المال… وهم أصلاً ما انقطعوا من الحضور اليومي… جمعهم كان عظيماً، أمام غرفة العناية المركزة… في تلك الليلة….
والسكان القاطنين في عمارتكم…. ما فتئوا يوالون المجيء، للاستفسار عن صحتكم…
ميزت منهم…. أدهم هنداوي وأحمد حارة…. جاءا باكرين في الصباح…..
ومحمد باخشوين وعلى باقلاقل الحضرمي ومعهم آخرين غيرهم لا أعرفهم… لكنهم كانوا يسألون عنك باهتمام..
خلق عظيم غص بهم المكان… حتى أن العمال، البنغال، كانوا يتهامسون ويتساءلون…. عن كنه الشخصية الخطيرة والمهمة المنومة عندهم…. لأن المستشفى في تاريخه لم يعرف زخماً بهذه الكثافة …
أم تمارا الشامية…. مع باقات الزهور…. جلبت لك طبق البرقل وجبتك المفضلة عندها… بيديها خصيصاً طبخطها لك…
لكن أم بندر وحدها…. هي التى أثارت أشجاني حتى دمعت عيناي.. واستحلفتنى بالله وبكل عزيز أن أغشاها قبل أن تغادر……
أبشر يا أبو عثمان ولا تثريب عليك….
الأوراق كلها جاهزة.. تأشيرة الخروج النهائية.. والتذاكر.. ومكافأة الخدمة….. مع تبرعات سخية جمعها لك أبو بندر…..
الرجل مشكوراً… قام بكل شيء، دون تكليف من أحد….. حتى أنه قال لي في صراحة… إذا كان أبو عثمان يرغب في مواصلة العلاج هنا… فإنه جاهز تماماً ولا يمانع من استقدام أي أحد من ذويه لمرافقته على نفقته الخاصة… ثم أردف بأسى عميق…. أبو عثمان رجل غير كل الرجال…. في طوال الثلاثين عاماً التي أمضاها معنا… لم نرى منه إلا الخير…. أبنائى كلهم تربوا على يديه…. رجال مثل هؤلاء لن يتكرروا أبداً….
لكن الرجل الذي كان أكثر ألما من الجميع…. هو حفيظ الله مجيد.. رفيقك الحميم…. لأنه رأى الناطور الجديد….. في مكانك في العمارة…..
أنا لا أدري يا أبو عثمان….. هل كان يرثي نفسه أم يرثيك أنت يا أبو عثمان… حين قال لي بحسرة مريرة…..
أنه لا يستطيع أبداً أبداً …. تصور كيفية المكان في غيابك… ثم بنبرة بكائية واصل الحديث…
أنا وأبو عثمان… أنشأنا كل هذه العمائر الفخيمة… لما كانت كل هذه البقاع صحراء قاحلة جرداء… نحن أنبتناها طوبة طوبة…..على رؤوسنا قامت.. نعرفها حجراً حجراً… والآن انتهى كل شيء وما عادت الدنيا مثل تلك الأيام…. لكننا ما استطعنا مفارقتها….
فظللنا قاعدين تحتها نحرسها…. مثل كلاب صيد هرمة…. لا تريد أن تفوت حتى يغيبها الموت…
أبشر يا أبو عثمان…. كل شيء يسيرعلى بركة الله
على طائرة الصباح.. عملنا لك الحجز…… التوقيت مناسب تماماً.. كل الأحضان ستكون بانتظارك في المطار….
وأنت سعيد يا أبو عثمان…. وتحمد الله لأنه أنعم عليك بإمرأة كنز… صابرة ومتيقنة…
هل تصدق؟؟؟؟ هي التي كانت تثبتنى وتواسيني في التلفون…
قالت لي بصوتها الهادئ الرصين..
المؤمن مصاب… ونحن نرضى بقضاء الله…. فلا تقلق ولا تحزن… والحمد لله..
يا لهفي عليك يا أبو عثمان……..
في الليالي الطويلة… كنت تحكي دائماً عن البلد والحنين للديار.. للنيل والنخيل… وثور الساقية الذى يدور… وأنت تحرث هنا فى البحر وتطارد السراب…
صممت أذناك عن كل نداءاتهم بالرجوع للحظيرة….
فى أوبتك الأخيرة للبلد… قبل عقد من الزمان….
ظلت أم عثمان… تتوسل إليك بالدمع السخين… وأنت تتمادى في العقوق..
كفاك… كفاك يا رجل…. ما عاد في العمر بقية… تعال لترتاح في نومتك الأبدية هنا… وسط الآباء والجدود… تعال ودع كذوب الأماني والأحلام….
ما عاد في العمر متسع للأوهام… تعال يا رجل لترتاح من تعب السنين..
لكن سراب الأمل كان د ائماً يخدعك…. فتماطل وتماطل وتسوف بالسنين…
لما حاصرتك بالنداء والبكاء تفجرت فيها بكل سخرية يقينك الموهوم…….
أسمعي ياولية……. ويا أيتها المرأة المخبولة… أنا سوف أعود.. سأعود….. سأعود… فلا تخافي ولا تجزعي عليّ …. أنا لن ألقى حتفي هناك…. سأعود إلى هنا.. وسيدفن جسدي طازجاً دافئاً في تراب هذا البلد… فلا تخافي عليّ من برودة صقيع ثلاجات مستشفيات المنافي الباردة……
وقرقرت أنت بالضحك…… لكنها بكت وبكت…. وبكت……
بالله عليك يابو عثمان…. أفتح عينيك ولا تستسلم
هذة النظرة أعرفها جيداً……. رأيتها في وجوه كثيرين ذهبوا بلا عودة….
أبو عثمان ….
بالله عليك لا ترحل قبل أن تؤوب للديار…
بالله عليك لاترحل… لا ترحل…. لاترحل…..
لا إله إلا الله محمد رسول الله…..
ولا حول ولاقوة إلا با الله…..
وإنا لله وإنا إليه راجعون……
جدة 12\3\ 1997م